ربما من الصحيح أن «العادة تعمي عن الأصل» واعتيادنا على أمر يجعلنا نتعاطى معه كما هو.. وكما وصل إلينا.. من دون أن نسأل عن أصله أو سببه أو من يقف وراءه. ضمن هذا الفهم أعجبني جداً استكشاف واكتشاف قصة الأغاني التي نرددها في مناسباتنا الاجتماعية والتي أصبحت جزءاً من ممارساتنا الاجتماعية، ومنها الأغنية التي نغنيها في أعياد الميلاد التي نقيمها لأطفالنا وأحبائنا والتي بتنا نرددها رغم أنها بالإنكليزية، حتى لو لم نكن نعرف هذه اللغة، فما أصل أغنية (هابي بيرذ داي تو يو) التي تعني عيد ميلاد سعيداً؟ وما حكايتها؟ ولماذا انتشرت هذا الانتشار الكبير؟
إنّ أهم سبب لانتشار هذه الأغنية هو بساطتها، فهي مؤلفة من ست كلمات وست نغمات.. تكرر في أربعة أسطر. الثلاثة الأولى منها متشابهة، والرابع يضاف له اسم صاحب عيد الميلاد المحتفى به. والبساطة أيضاً كانت في صياغتها كمجاملة من الكلام الدارج والمتداول والمباشر في معناه. وهذه النقطة يمكن فهمها إذا عرفنا أن مؤلفة هذه الأغنية الأصلية هي «بيتي هيل» من ولاية كنتاكي الأمريكية.. كتبتها في عام 1868 لتغنيها للأطفال الذين تدرسهم كتحية الصباح، وكانت كلمات الأغنية بالأصل تقول «صباح الخير.. صباح الخير.. صباح الخير يا أولادي الأعزاء»، وقامت أخت بيتي «متيلدا هيل» بتلحين هذه الكلمات لأختها، وبسبب انتشار الأغنية الكبير أدرجت في كتاب الأغاني المخصص لرياض الأطفال لعام 1868.. لكن لوحظ أن هذه الأغنية عادت لتدرج في كتاب آخر للأغاني حرره «روبرت كولمان» في عام 1924، واستبدال فيه تحية الصباح «صباح الخير» بمباركة عيد الميلاد «عيد ميلاد سعيد»، واتخذت الأغنية شكلها الاحتفالي لتصبح نشيد المباركة والاحتفال في أعياد الميلاد على مدار العالم.. بغضّ النظر عن لغات المحتفلين أو المباركين.
هذه الأغنية البسيطة، بكلماتها الست وبنغماتها الست المرافقة، غزت واحتلت العالم، وباتت ثقافة إنسانية، لكنها بقيت ناطقة بالإنكليزية. وهذا ما يؤكد أن البساطة الشعبية في أي منتج فني ثقافي يمكن أن ينشر ثقافته ويجعلها مسيطرة. وإذا كان هناك من يبحث عن المردود المالي من ملكيته الفكرية لأي منتج ثقافي، فإنّ عليه أن ينتبه إلى المردود الإيديولوجي المعرفي لهذا المنتج الذي يسكن الوعي ويترجم في الممارسة الاجتماعية والحياتية.
في ثقافتنا العربية عموماً والسورية وخصوصاً الكثير من الإبداعات الفنية البسيطة والعميقة والمؤثرة.. لا تحتاج منا إلّا للرعاية والاهتمام والتكريس كي تتجذر في الوعي، وتتجسد في ممارساتنا الاجتماعية بروحها العربية وبحضارتها الإنسانية.. و«عقبى الفرح بإنجازاتنا!».