بصل!!
«قديش يا بصل، صرنا عم نشتهيك
غليت سعرك عالبشر، شو صار فيك
كنا نشر دموع لما نقشرك
صرنا نشر دموع لما نشتريك»
ذلك ما أجادت به قريحة أحد الفوسبوكيين، ولكثرة ما تخاطف (القول) فوسبوكيون كثر، حتى طُرش الفيسبوك بالشعر البصلي، كان أن ضاعَ اسم صاحبه الأول، لدرجة يكادُ معها أن يُمسي القولُ «مأثوراً»، والطريف أن بعض الظرفاء ينسبه للشاعر نزار قباني.. ذلك القول الذي جاء من محنة جديدة تنضافُ إلى محن السوريين العديدة خلال كل هذه السنوات المُصرة على ألا تعرف نهاية لعجافها.. وهي محنة تبدو غريبة لجهة المادة المفقودة، والتي كانت طول الوقت في الذهنية الجمعية للسوريين مادة مُعادلة لـ(اللاشيء) في النظرة الثقافية لانحطاطها على الأقل مجازاً، ونظراً لسهولة توفرها إذا ما أرادَ المرء توفيرها، إذ إن عرضها يصبحُ مع الطلب لا يُساوي شيئاً مهماً.
وفي هذا الحيز، ليست الغاية البحث في (أزمة البصل)، ولا الحديث عن فقدانها المُريب في الأسواق السورية، ولا الخوض في كيفية استلامها من المزارعين بمبالغ بخسة لا تتعدى الـ(350) ليرة للكيلوغرام الواحد، ومن ثم تصديرها بسعر – ربما – لا يتجاوز الـ(1000) ليرة، أو احتكارها وإخفاؤها في المخازين لطرحها عندما تفتقد في السوق بأسعار خارجة ليس عن المألوف فحسب، لكن حتى عن المعقول في عالمٍ أمسى فيه الجنون سيّدُ الساحات.
في هذه الزاوية، سأقدّم عرضاً، سأحاولُ أن يكون مكثفاً عن البصل في الثقافة الجمعية للسوريين، والذي طالما ارتبط بمصطلحات الدونية كما أسلفنا.. البصل الذي يستخدم كمنكه في عشرات الطبخات، على الأغلب يبتعد عنه نيئاً إذا ما كان للمرء انشغالاته الاجتماعية، أو التي لها علاقة مع الناس ومقابلاتهم، نظراً لتعنت رائحته في الفم التي ميزتها «الصنين» والتي تبقى فترات طويلة كما يفعل الدخان فعلته عند المدخنين، أو كما يفعل الخمر عند السكارى.
فكانت عندما تضيقُ الدنيا مع السوري؛ تُمسي الحياة لديه لا تساوي (بصلة) كما يُعبّر عن حالته المؤسفة.. وإذا ما أرادَ أن يُقلل من شأن ما، وتبخيسه؛ فهو يُقارنه بأنه لا يُعادلُ (بصلة)، بل إنه يصف هؤلاء الحشريين والفضوليين الذين يتدخلون فيما لا يعنيهم بـ(الداخل بين البصلة وقشرتها، ما بينوبك غير رائحتها)، كنايةً عن رائحتها الكريهة، وكنايةً عن الخيبة التي جناها المتدخل الفضولي.. وإذا ما تعمقنا في المؤثرات، والسرديات السورية، فكان دائماً يرتبطُ البصل بالمعادلات الكثيرة من الدونيات رغم فوائده الصحية الكثيرة.
اليوم، ومع وصول ثمن كيلو البصل إلى (16) ألف ليرة في فجور فوضى الأسعار، انتقلت المُصطلحات من المعادلات الدونية، إلى حالات من السخرية والتهكم والخيبة، بل صار (تريند) ربما لا يُضاهيه (نضارة) ممثلة، أو (جاكيت ملونة) لممثل في عزاء، أو ظهور فنانة بثياب لا تسترُ إلا قليلاً، أو طلاق ممثلة، وزواجها بثري فاحش الثراء.. فهنا صبية تضع قلادتها على شكل بصلة تتدلى على صدرها، أو شابٌّ يتقدم لخطبة فتاته بطبقٍ من البصل، وغيرها الكثير، وبدل الشوكولا، والورد؛ يُمكن للمرء أن يستبدل ذلك بأكياس من البصل، لأهمية الأخير وتفوقه على ما سبق.. واليوم: «ما عاد فيه رجّال سوري، يشتكي، ويندب: «ريحة مرتي بصل!!..». البعض أمسى يرى أن تلك الفتاة التي تقبل بالعيش معك على «الخبزة والبصلة»، تبدو اليوم «داخلة على طمع»!!
هي الدنيا إذاً، التي لا تساوي بصلة ذات حينٍ بائس، وهي الدنيا التي تعادلُ بصلة في رفاهيتها.. وبعيداً عن البصل أهديكم هذه الرائحة المختلفة في هذا الهامش:
تعششُ
رائحتُك
في ثنيايا جسدي
تماماً
كمبيتِ العصافير
في ثنيّات الشجر .