تقنيات مُستبدّة
لا مكان للمحدودية في وسائل التواصل الاجتماعي؛ هذا ما تُوحي به إمكانية التواصل المفتوح مع الملايين حول العالم، إضافة إلى أعداد لا حصر لها من الصفحات والمجموعات التي تسمح بالنقاش وتبادل المعلومات والآراء ووجهات النظر، غير أن المشهد الافتراضي يبدو في جهةٍ ثانية تماماً، معظم الوقت، ولا مبالغة في القول إن الوفرة الظاهرة، شكليّة، بل ربما يجري العمل باستمرار لبرمجتها نحو الضآلة والشح، ما دامت تُساير اهتمامات المُتابعين وتُقدّم لهم ما يشاؤون وما يُوافق قناعاتهم، حيث يختفي كل ما هو مُغاير تماماً، سواء كان فكراً أو جماعةً، وربما كان حدثاً أيضاً.
استبداد التقنيات أعطى المحدودية ألواناً جذابة؛ سمح لها بالإقصاء والإزاحة دونما شعورٍ بالتعدي، كأنها تُعيد إنتاج المُتابع لها وتُقّدمه لنفسه بشكلٍ مُختلف، حاملاً أفكاره واهتماماته وأخلاقياته ذاتها، مجرّد نسخة إلكترونية مُحدّثة لا أكثر، يدور حول نفسه باستمرار، يسمع أغنياتٍ من نمطٍ واحد، يُشاهد مسلسلاتٍ وأفلاماً شاهدها عشرات المرات، يُلاحق أخباراً عن مواضيع مُحددة، يتمسك برأيٍّ ثابت ويُدافع عن قضايا لم تعد مُلحة، والتقنيات تُعطي المزيد بلا توقف، مما يرغب وعمّا يُرضيه، أليس هذا إثباتاً لصحة ما يُؤمن به، على الأقل وفق خوارزميات الموقع الأزرق؟.
الحديث عن شعور الفرد بالعزلة والدونية، مستمرٌ منذ أعوام، ولا سيما إذا كان يُمضي ساعاتٍ طويلة في تصفح الفيسبوك، وعلى ذلك اتُهِم الموقع الأكثر حضوراً في حياة الناس، بتعميق إحساسهم بالوحدة، رغم وصول عدد الأصدقاء الافتراضيين عند بعضهم إلى الآلاف أحياناً، وفي هذا السياق أيضاً كان منبراً للكراهية والعدائية وتمجيد الذات، والكثير من أوهام الشهرة والحضور والتأثير، علماً أن هذا لا ينفي أدواره في زوايا أخرى.
لعلَ أفضل طريقة يتأكد بها أحدنا من صحة استخدامه التقنيات، هي أن يتعلّم كيفية استخدامها ببساطة، أفضل من أن ينتهي الأمر به معزولاً بملء إرادته، الآخرون حوله دائماً وأينما كانوا افتراضياً، لكن ما يحصل فعلياً هو تقليل فرص التواصل الحقيقية، كأن تقضي أياماً مُتنقِلاً بين الفنادق، من دون أن تتمكن من المبيت في أحدها.