“واحة الغروب” لبهاء طاهر الحقيقة بسيطة لا تحتاج إلى زخرفة الكلمات

زينب عّز الدين الخير:
فازت هذه الرواية -واحة الغروب لبهاء طاهر- بالجائزة العالمية للرواية العربية عام /2008/ وهي تتناول فترةً محددةً من تاريخِ مصر؛ أواخر القرن التاسع عشر، يمزِج الكاتب فيها بين الذاتي، والموضوعي، والتاريخي بطريقة رائعة واصفاً علاقة الشرق بالغرب في تلك الآونة..
يؤرخ بهاء الـ(طاهر) لمجتمع واحة سيوة، تلك البقعة الفريدة في جغرافية العالم، حيث صمدت عاداته وتقاليده لقرون طويلة، لكنّها اليوم ولابدّ رهن عاصفة التقنية.. حيث يشير الكاتب إلى أن اسم المأمور “محمود عزمي” هذا هو الجزء الحقيقي فقط من الرواية، والبقية كلّها متخيّل، وكان محمود هذا مأمور واحة سيوة في العام /1897/ وانتهى به الأمر تفجير معبد “أم عبيد” الأثري بالديناميت، في محاولة من الكاتب لفهم ظروف وملابسات ذلك الحادث وتلك الشخصية، في ظلّ غياب أي وثائق، أو معلومات عن مصيرها.. إنما دمر المعبد الذي يعود إلى فترة ما قبل الميلاد بالفعل، وتناثرت أحجاره، ثم صارت سلماً جديداً في قسم الشرطة، ورممت بها حيطان بيت المأمور في سيوة.. هذا كل ما يتعلق بالواقع، فماذا عن الخيال؟
استلم “محمود عزمي” قرار تعيينه في الواحة من المستر هارفي، وكان ذلك بمثابة عقوبة، نظراً لصعوبة مجتمع الواحة، وكثرة الصدامات والصرعات بين عشائرها، وكون أهلها لا يخفون عداوتهم التاريخية للدولة، فقد استمتعوا باستقلال ذاتي منذُ فجر التاريخ، وحتى أيام محمد علي، لذلك فكل من يدخلها يعامل معاملة الغزاة، حتى الجيش المصري.. والغزاة يفرضون الضرائب دوماً، والأهالي يثورون باستمرار احتجاجاً على الضرائب، ولا يدفعونها إلّا بقوة السلاح، وهو الضابط المعاقب على تعاطفه مع ثورة أحمد عرابي، وعلى التزامه حضور حلقات جمال الدين الأفغاني، وسوف يتولى استتباب الأمن.
أصرت زوجته “كاثرين” على مرافقته، تكون حيث يكون زوجها، وبالمرة تبحث عن أشباح تاريخية تجول في الواحة، إنها فرصتها في تحقيق حلمها القديم؛ برحلةٍ في الصحراء لتسيرَ فوق الحصى والرمال التي سار عليها الإسكندر، كان والدها المثقف الأيرلندي الذي علّمها اللغات القديمة قد أوصاها بأن تبقى بعيدة عن ناسِ الشرق الأحياء، فهم مستودع للتاريخِ فقط، لكنها مضت بعيداً في مخالفةِ التوصية إذ تزوجت ضابطاً مصرياً، جمعهما الحب، كما جمعهما العداء المشترك للإنكليز، وإن كانت تحمل الجنسية البريطانية، وطالما حدثته عن ثورات الأيرلنديين وقمع الجيش البريطاني لهم، لقد أمعنوا في تشتيتهم فصار المهاجرون منهم أكثر ممن بقي في البلد، حتى إنهم ساقوا مرّةً ستينَ ألفاً من الرجال والنساء والأطفال وباعوهم عبيداً في جزر الهند الغربية.
صادفتهما في طريقهما إلى الواحة، كل الأهوال التي سمعا بها ولم يهدأ خوفهما إلّا حين لمحا بحراً من الخضرة وسط الرمال، واستقبلهما الزجالة، وأطعموهما، وأتاحوا لهما فرصة الغسيل والاستحمام، وغنوا لهما، رقصا وفرغا كامل شحنات عذاباتهما فرحاً شجياً، وفي اليوم التالي قادوهما إلى عمق الواحة، والزجالة هم طبقة المعدمين العاملين في مزارع يملكها الأجواد في انقسام طبقي مقدس.
استقبلهما الأجواد بكل ما أمكنهم من كراهية ونفور، وسلك المأمور سبل اللين معهم حين تخلى عن كل مظاهر القوة والسلطة وسار بلا حراسة، ولم يقبل منهم هداياهم، كما لم يطالبهم بشيء لنفسه، بل بالضريبة التي فرضتها الحكومة فقط، وأرسل كتاباً للحكومة، بأنَّ الضرائبَ هي سبب العصيانات المتتالية.. لكن العاصمة بعثت المزيد من الكتب مع القوافل الواردة إلى الواحة وكلها تحثّ المأمور على جباية الضرائب بيدٍ من حديد..
انشغلت” كاثرين” بالبحث بين أحجار المقابر الأثرية عن أثر يخص الاسكندر؛ فالمقابر قد نُهبتَ منذُ سنين من قبل البعثات الأثرية، واللصوص، والأهالي على السواء، ورغم نظرات الكراهية استمرت في بحثها، لعلَّها تحظى بأثر، أي أثر، وسيذكرها التاريخ بعدها.
في الواحة التي يُقتل فيها العُمد، والمأمورون، تعرّض محمود عزمي لمحاولة اغتيال جعلته مطمئناً، مرتاحاً بعد قلقه العظيم، فقد اكتشف أن الموت قريب جداً، وغير مخيف، على أن يأتي بسرعة.. إنه يتمنى نهاية سريعة لحياته، كذلك تعرضت زوجته أثناء بحثها عن قبر الإسكندر لمحاولة قتل بالحجارة، فحرم عليها الخروج من البيت، وجاءه ضابط مساعد غير أخلاقي؛ يرفع التقارير المضللة للإدارة، ويتآمر مع الأجواد على تهريب السلاح، وتأجيج الخلافات.. وهكذا فقد المأمور الأمل بكل الأشياء؛ بإدارة الواحة، أو تحقيق السلم بين الأهالي.. وجد في مستودع الأسلحة بعض الديناميت الذي هرّبهُ الضابط الشاب ليتاجرَ بهِ، فوزعها في المعبد ومدَّ الأسلاك وأعطى الفتيل القليل من الشور. تفجَّرَ المعبد، وتناثرت أحجاره، وجاءتهُ الشظايا في العنق والرأس، رأى النور الأبيض يسطع أمامهُ ويجذبهُ بقوّةٍ ساحرة، حتى انتهى كل شيء، وما انتهت الحكاية؛ “الحكاية لا تكتمل بروايتها، إنما يكملها من يسمعها”.

لقد برع الكاتب في الحديث عن الواحة وأهلها وعاداتها، ومزج الخيال بالواقع بطريقةً مدهشةً محاولاً تعليل ذلك الحدث الحقيقي من خلال نظرته الشخصية للحياة والموت، للجدوى، للأمل نفسه. الرواية ساحرة، فيها كنزٌ من المعلومات التاريخية، والتفاصيل الحلوة، الغريبة، وتتفوّق كثيراً على كلِّ ما قرأتهُ من إنتاج الأديب الكبير بهاء طاهر: “خالتي صفية والدير، شرق النخيل، والحب في المنفى وغيرها..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
1092طالباً بالثانوية العامة استفادوا من طلبات الاعتراض على نتائجهم قيمتها ١٥٠ مليون ليرة.. أين ذهبت مولدة كهرباء بلدة «كفربهم».. ولماذا وضعت طي الكتمان رغم تحويل ملفها إلى الرقابة الداخلية؟ الديمقراطيون الأميركيون يسابقون الزمن لتجنب الفوضى.. الطريق لايزال وعراً وهاريس أفضل الحلول المُرّة.. كل السيناريوهات واردة ودعم «إسرائيل» الثابت الوحيد هل هي مصادفة أم أعمال مخطط لها بدقة «عائلة سيمبسون».. توقع مثير للجدل بشأن مستقبل هاريس تطوير روبوتات لإيصال الأدوية عبر التسلل إلى دفاعات الجسم المكتبة الأهلية في قرية الجروية.. منارة ثقافية في ريف طرطوس بمبادرة أهلية الأسئلة تدور.. بين الدعم السلعي والدعم النقدي هل تفقد زراعة القمح الإستراتيجية مكانتها؟ نقص «اليود» في الجسم ينطوي على مخاطر كبيرة يُخرِج منظومة التحكيم المحلي من مصيدة المماطلة الشكلية ويفعِّل دور النظام القضائي الخاص.. التحكيم التجاري الدولي وسيلة للاندماج في الاقتصاد العالمي التطبيق بداية العام القادم.. قرار بتشغيل خريجي كليات ومعاهد السياحة في المنشآت السياحية