سبع سماوات موسيقية لكنان ادناوي والفرقة الموسيقية
بديع منير صنيج:
ليس غريباً أن تبدأ حفل “كنان ادناوي” والفرقة الموسيقية بافتتاحية تموز، وتنتهي بافتتاحية أوغاريت، فكل ما يشتغل عليه المؤلف الموسيقي وعازف العود السوري هو أن تبدأ موسيقاه باستمرار، وأن تحافظ على رحابة البدايات ودهشتها ويَقَظَتِها ولهفتها في التقاط أسماع المتلقين، والمثابرة على جذب اهتمامهم، من دون أن يعني ذلك عدم السعي لتصعيد درامية الألحان، لكن ثمة حالة خاصة ومتكررة، في معظم مقطوعات الأمسية التي تم إحياؤها في مسرح الدراما ضمن دار الأوبرا السورية، وهي أن دراما النغمات كانت متعددة الذرى، وتتصاعد باستمرار، محاولةً أن تتجدَّد في تصويريتها، مع تعدد أمزجتها ومحاوراتها بين الآلات المختلفة، والأهم بلاغتها في إيصال الشعور باللحن، والذي يتفاوت بين كونه أشبه بآهٍ مديدة، أو دمعة رقيقة، وبين اقترابه من أقصى درجات الفرح وكأنه ابتسامة رِضا، ومرَّات تراه مُتوتِّراً حائراً، يتخافت بحزن شديد، ثم لا يلبث عن يصدح بسعادة قلّ نظيرها.
زاد من هذه الدرامية في موسيقى “ادناوي” تشخيص أصوات الآلات المرافقة، وجمالية حواراتها، فمرة نسمع جدلية بين الكمان والعود، وأخرى بين الساكسفون والتشيللو، وثالثة بين الآلات الوترية والإيقاعية، وكل ذلك يُساهم في تثوير اللحن، وجعل لغته بمثابة مسارات موسيقية متناغمة، يأخذ كل منها حصّته في القول، بلا أدنى محاولة للاستئثار بفردانية تُخِلّ بالمشهد، إذ على الرغم من وصلات الصولو لكثير من الآلات، إلا أنها جاءت مندغمة مع الكل، وقادرة على التفاعل مع قماشة اللحن الأساسية، بحيث لا تكون لوناً نافراً، وإنما تتآلف ضمن اللوحة الكلية، وفق معايير دقيقة، وبمقادير موزونة بميزان الذهب، لدرجة تصبح فيها جوقة الأصوات مُتلبّسة بروح المؤلف، وإمكانيته في تطويعها لتخدم مشهده العام.
والمميز أيضاً في هذه الأمسية، التوزيع الموسيقي الذي أبدع “ادناوي” في تحقيق أثره الجمالي، ضمن متواليات قائمة على الحواريات الموسيقية بين آلات شرقية وأخرى غربية، والارتجالات المشتركة بصيغة فريدة، فضلاً عن التنويع المقامي، وتعدد السرعات الإيقاعية، ساعده في ذلك وجود موسيقيين ترفع لهم القبعة، هم دلامة شهاب على الساكسفون والترومبيت، وعازفة القانون تيما نصر، مارلا صحناوي على الفلوت، رهف شيخاني على الهارب، علي أحمد ومحمد شحادة على الإيقاع، وعلى الكونترباص ليلى صالح، جواد حريتاني تشيللو، وعازف الكمان غطفان ادناوي. وأكثر ما يميز أولئك الموسيقيين هي حساسيتهم العالية في أداء اللحن، والقدرة على التماهي مع روح كل مقطوعة، سواء أكانت بتوقيع ادناوي ذاته وخاصة في افتتاحيتي “تموز” و”أونتايم وأوغاريت”، و”مزاج” و”أمنيات يومية” أو كانت من التراث كمقطوعة لونغا، أو معزوفة تانغو لمحمد عبد الكريم.
ولإبراز مقدرات “كنان” كعازف عود تضمنت الأمسية مقطوعة عزف منفرد، انتقل فيها من مجرد تقسيمات إلى وصلة طويلة، تفاعل الجمهور معها، ومع بقية المقطوعات، التي أثبت فيها العازفون علو ّكعبهم، وفرادتهم، في تصدير دهشة الموسيقى بأبهى حلّة، ومن دون تكلُّف، وتعزيز صلتها بالمستمعين، الذين ظلوا على مدى ساعة ونصف، في مزاج عالٍ، يتمايلون طرباً ويصفقون فرحاً، ويتأملون ما استطاعوا بهذه المشهدية الموسيقية الباذخة بسمواتها السبع.