تردي الخطاب النقدي العربي

زيد قطريب

يبتهج البشر للمديح، ويزبدون ويرعدون عندما يتعرضون للنقد! ولأن المثل الشعبي الكارثي يقول: “ما حدا بقول عن زيتو عكر”، كان علينا أن نتحمّل تاريخياً، تبعات حضور النقل على حساب العقل، فالنقل أكثر راحة من إعمال الفكر والبحث عن الأسباب والنتائج، كما أنه يعفي الناقل من المسؤولية بتحميلها للمنقول عنه والذي يتوافق على الأغلب مع السائد المستقر، ويتنابذ مع المتحرك المتبدل.
النقد تحول إلى جلسات نميمة تتم في الخفاء من دون قدرة على المواجهة، لأنه لا يمتلك المعطيات الموضوعية لتوجيه إصبع الاتهام، وفي هذا الجانب، تواطأ النقد مع الإبداع الهزيل فأصبحنا أمام مشكلة نقد هشّ مقابل إبداع هجين مسحوب الخير وفاقد الدسم. ستتهمنا المنظمات النسوية باضطهاد المرأة إذا تحدثنا عن ظاهرة شاعرات قليلات المواهب! وعندما نشير إلى كاتب في العشرين أصدر عدة دواوين بلا رصيد يذكر، سيتهمنا بمكافحة الإبداع الشاب.. الناس يميلون إلى التطبيل والتزمير، وهذا مرض تاريخي عمره مئات السنين وليس وليد اللحظة، وهو مرتبط -كما أسلفنا- بطغيان الخطوط الحمر الكثيرة في الثقافة العربية التي ترسم زاروباً ضيقاً للناقد وتجبره على السير فيه وإلّا يمكن أن يهدر دمه أو يتعرض للمساءلات الكثيرة التي تحدق به من كل اتجاه وصوب.
الناقد لا ينجو حتى من القوانين، فيمكن أن يتعرض إلى اتهامات القدح والذم إذا نشر دراسة نقدية عن ديوان شعري، وفي هذا الصدد يمكن الحديث عن تواطؤ القوانين في ترسيخ حالة سيادة النقل على إعمال العقل، فجميع مفردات الثقافة العربية تفضل البحيرة الراكدة على الأمواج المتلاطمة، وتالياً فإن الناقد يمكن أن يدفع الثمن باهظاً إذا ما سوّلت له نفسه التفكير بمنطق وحرية حيث يقول للأعور “أعور بعينه”.
تتحدث مؤسسات الثقافة عن تردي الخطاب النقدي العربي، وهي تعرف تماماً أنها مساهمة في هذا التردي، فهي غير قادرة على احتمال انتقاد صحفي لنشاط بسيط تنظمه بعجالة وكيفما اتفق، لأن النقد هنا يمكن أن يهدد كرسي مدير المؤسسة ويكشف أماكن الخلل، وتالياً فإن أفضل شيء هو الهجوم المبكر على النقاد أو محاولة شرائهم حتى لا تفكر نصوصهم “بالخرمشة” ولا تكبر برؤوسها “الخسة” فتتصور أنها تستطيع تقويم “القتاية” عبر نصوص عابرة تنشر في الصحف ولا يقرؤها أحد!.
في الشعر والرواية والرسم والموسيقا والاقتصاد، يفضل أن تركزوا على معلقات المديح، أو تختاروا الصمت كأضعف الإيمان، فهناك مثل كارثي آخر يسوّغ أفعالكم عندما يقول “ألف أمّ تبكي ولا أمي تبكي”، فاختاروا السلامة وامشوا “الحيط الحيط” لأن هذا العصر مصاب برُهاب العقل ويفضل الوجبات السريعة وطبخات البحص.. وتالياً ما على النقاد سوى أن يؤكدوا أن الإبداع بخير والأمور تسير على ما يرام في هذا السيرك الكبير الذي يشترك الجمهور فيه بتقديم العرض!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار