شعريةُ سنيّة صالح.. احتضارُ فراشة النار
حنان علي
حين نقشت خربشاتها الأولى كانت تعي أن الألم يخلد إلى الكلمات المتوارية في الهوامش، خاصة بعد أن جثا طويلاً خلف شفاه طفلة آثرت الصمت بين يدي والدتها الصمّاء، أو لعلّ عباراتها كانت تخمّر حنيناً لمحبوبٍ ثائر متمردٍ نسج لها حباً مترعاً بالمحن والمكابدات، “فالبيوت الحزينة كالرياح تختبئ وراء الغابات صامتة ومتعانقة كأصابع العشاق.
إنها سنية صالح التي شرّعت أبوابها لأسماء متناقضة، الحاضرة ببعضها مع الآخرين وببعضها مع القصيدة، “قصيدة قررت مصير العالم الواقف خلف أميال من نيرانٍ شعريةٍ اجتازتها بخفقة قلب”.
تعطيني أرضك
عشبةً إثر عشبة
تعطيني ربيعك
ومضةً إثر ومضة
وأنا أتساقط مع هبوب الزمن
ورقةً إثر ورقة
تجربة سنية صالح الشعرية ما كانت سوى توغّلٍ في العزلة، الوحشة المزمنة المظللة لحياتها… خفرٌ وتوترٌ وحبٌّ مشتعل وتضحيات بالغة في سبيل شريكها الشاعر والأديب محمد الماغوط.. لا يمكن للقارئ إلّا الانجراف خلف خطوات تلك الشاعرة المنهزمة المنطلقة من “فم المداخن من ليلها الطويل المستسلمة للريح بأطفالها وخيولها”.
“أنا المرأة المتعددة
خلقت من أجل الطرد العظيم
من نسلِ عاشقات منهزمات”
شعور بالغربة إلّا من بهجة سكبتها أخت حنون وابنتان جميلتان و زوج رائد ساندته على الدوام موقنة بمكانته الإبداعية :”حين كانت الصحف غارقة بدموع الباكين على مصير الشعر، نشر محمد الماغوط قلوعه البيضاء الخفاقة فوق أعلى الصواري”
جبروت ضياء الشريك
“لقد أحببتُ محمد الماغوط بعنف وصدق وإخلاص لا مثيل له، لقد غزاني بالشعر في وقت لم يكن يملك فيه إلّا الشعر”.
اطوني كما تطوي أوراق الشعر
كما تطوي الفراشات ذكرياتها
من أجل سفرٍ طويلٍ
وارحل إلى قمم البحار
حيث يكون الحب والبكاء مقدّسين
عشقٌ جارفٌ أرادت له شاعرتنا: «أن يكون ثأرها من العالم وحصانها السحري للنجاة» وفق ما وصّفته أختها الناقدة خالدة صالح في مقدمة أعمالها الشعرية الكاملة، لكنّ الكثير قيل عن العلاقة الصعبة التي جمعت الشاعرين وما تخللها من شجون، حتى إنّ محمد الماغوط نفسه أظهر في كتابه “سيّاف الزهور” ندماً محملاً بامتنانٍ للزوجة المعذّبة في رثاء مفجع :”ثلاثون سنةً، وأنت تحملينني على ظهرك كالجندي الجريح، وأنا لم أستطع أن أحملك بضع خطوات إلى قبرك”.
“كان يكفي الشاعرة سنية صالح أن تكون زوجة الشاعر محمد الماغوط” حسب الكاتب عبده وازن، “لتعيش في الظل وتكتب بصوت خافت خلف الضوضاء” كما رأى أن الشاعرة الرقيقة والعذبة ما برحت ضحية شهرة زوجها ومزاجه المتقلب وطباعه الحادة.
في حين تساءل الكاتب و الروائي خليل صويلح الصديق المقرّب لرفيق دربها وصاحب الحوارات الساخنة معه في “اغتصاب كان وأخواتها :” ماذا لو محونا صورة محمد الماغوط من الإطار، هل ستكمل سنية صالح حياتها على نحوٍ آخر؟ كانت قد برّرت ارتباطها بسطوة الحبّ وحده في الدفاع عن خيارها، لكننا نظنّ بأن دمارها الشخصي كان بسبب هذه العلاقة غير المتكافئة لجهة شفافية روحها من جهةٍ، وخشونة «البدوي الأحمر» من جهةٍ ثانية. لم تكن علاقتهما الزوجية على ما يرام”.
رغم جلاء موهبتها، لم تتعامل الشاعرة بأي نوع من التنافس مع الأديب الماغوط.. الزوج الذي أبدى شيئاً من التوتر والاتهام عبر حواره القصير مع زوجته، إثر صدور مجموعتها الثانية «حبر الإعدام» حين سألها: «ألا تشعرين بتأنيب الضمير وأنت تكتبين بمعزل عن قضايا أكثر أهمية وإلحاحاً من عذاب امرأة غير متآلفة مع بيئتها؟”.. لتجيبه بأنّ عذابات المرأة من صلب الواقع ذاته، ثم تضيف بنبرةٍ مضادة: “ولماذا تمد ذلك الليل البشري بيني وبين الأشياء المضيئة؟” .
سنية صالح التي نشأت تحت المطر والريح لم تكن متوجعة حتى الموت بل أمسى حزنها مصدراً لتفجير سكونيات يومها، سكونيات الحياة : “إنني لا أزال أنمو شعرياً في حزني، فِلمَ ترونه أمراً سيئاً يجب التخلص منه؟ لست رومانطيقية.. فشعري هذيان فردي لقاعدة جماعية، حزني حار صميمي وخصب” .