النمور في اليوم الحادي عشر..

لم تكن نمور زكريا تامر التي قبلت أكل الحشائش في اليوم العاشر إلا تعبيراً عن يأس الكاتب أمام ما يتعرض له وطنه ومواطنيه من ضغوط ومؤامرات، جعلت المستقبل المشرق الذي وعدنا أنفسنا به منذ مطلع القرن العشرين يبدو أمراً بعيد المنال.

لقد قبل زكريا تامر بأن نهاية تاريخنا قد حلت، وأننا هزمنا ولا نملك سوى الاستسلام والقبول بتدجين النمر وتحوله إلى مواطن، وكذلك بتحول القفص إلى وطن.

لم يكن إحباط تامر ذاتياً، فالحداد المولود في دمشق كان قد وصل مكانة مرموقة في الوسط الأدبي والثقافي في بلاده والعالم، وهي المكانة التي عبّر في أكثر من لقاء أنه لم يكن يتوقع الوصول إليها. لقد كانت نمور زكريا تامر تعبيراً عن انهيار الحلم الذي رافق جيلاً نشأ على الآمال الكبيرة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. لكن تلك الآمال أخذت بالانهيار بعد خيانة السادات في حرب تشرين 1973، وذهابه إلى محادثات وقف إطلاق النار في “خيمة الكيلو 101” ثم الجلوس إلى الإسرائيليين في مؤتمر جنيف للسلام، وإعلان السادات عن نيته زيارة القدس في العام 1977، وصولاً إلى توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في العام 1978، وهو نفس العام الذي صدرت فيه المجموعة القصصية “النمور في اليوم العاشر”.

قبل زكريا تامر كان تيسير السبول، الشاعر والروائي الأردني الذي كسرته الهزيمة، يعبر عن يأسه وإحباطه من الواقع على لسان بطل راويته “أنت منذ اليوم. عربي”، بطل الرواية ذو الاسم المعبّر، قروي شاب خرج من قريته منتمياً حزبياً ووطنياً وصادف كل الإحباط الممكن ليعود إلى قريته، وحين أثقلته هزيمة حزيران 1967 ظل يردد “ما لي نفس”. كذلك لم يحتمل السبول منظر الضباط المصريين يجلسون مع الضباط الإسرائيليين في “خيمة الكيلو 101” فاختار أن يطلق النار على رأسه في تشرين الثاني 1973.

بعد تسع سنوات، وفي تشرين الثاني 1982، سيتكرر المشهد في العاصمة اللبنانية بيروت، ويطلق الشاعر اللبناني خليل حاوي النار على رأسه وهو على شرفة منزله في حي الحمرا يأساً واحتجاجاً على دخول جيش الغزاة إلى العاصمة اللبنانية.

لخص فوكاياما معاناة هؤلاء وكثيرين غيرهم في كل مكان من العالم، عندما أعلن أن نهاية التاريخ قد جاءت وأن على الجميع القبول بما قبِل به نمور زكريا تامر في اليوم العاشر. وهكذا أصبح المناضل والثائر ناشطاً استبدل حقوق الأوطان بأكاذيب ليبرالية عن حقوق الإنسان، وأصبح القفص الذي رسمت حدوده وقضبانه مشاريع المستعمرين، وطناً نهائياً لأحلامه القزمة التي لا تتجاوز هوية “وطنية” لا تمتلك من مقومات الهوية إلا اسمها، وصندوق اقتراع يضعه على شاشات التلفزة العالمية مرة كل أربع سنوات في مواسم الانتخابات.

ما غاب عن زكريا تامر أن النمور لم تكن جميعها قابلة للترويض، وأن بعضها، رغم جوعه، احتفظ بالغابة في مخيلته ورفض القبول بشروط المروض. الأهم أن هذه النمور لم تكتف بالرفض ولكنها قررت المقاومة.

عند الحديث عن المشروع الوطني التحرري نقف عند الكثير من المحطات السياسية والعسكرية، لكننا نادراً ما نقف عند محطات ثقافية نستطيع اليوم القول إنها كانت الأهم في انهيار هذا المشروع. كان الإسلام السياسي قد جاء مع ولادة تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي عام 1928، وتنامت قوته في الشارع العربي حتى أصبح واحداً من أهم القوى السياسية في هذا الشارع.

تسلل مشروع الإخوان من خلال إهمال الدول الجديدة لجزئية البناء الثقافي واعتبارها جزءاً من الكماليات، وتركيزها على البناءين العسكري- السياسي والاقتصادي.

كما أن الكثير من الأنظمة الرجعية التي ولدت من رحم الاستعمار كانت تبحث عن مصدر لشرعيتها، وهو ما قدمه الإخوان مقابل إطلاق يدهم في مجالي التربية والتعليم والأحوال الشخصية. ورغم أن بعض الدول تصدت للتنظيم الإرهابي بقوة مثل مصر عبد الناصر وسورية، إلا أن تسلل الفكر السلفي الوهابي لوّث الخطاب الديني الرسمي، وسيطر على المجالات نفسها داخل الدولة.

في العام 2010 تسمرنا جميعاً أمام التحالف الوهابي- الإخواني الذي اجتاح وطننا باسم “الثورة”، ووجد الدعم من القوى الاستعمارية الغربية، والتنظير من مجاميع المثقفين الليبراليين وبعض شراذم اليسار ممن خانتهم لياقتهم وتقديراتهم.

بدت الأمور وكأن نهاية تاريخنا قد أتت، خاصة وأن لعبة الديمقراطية جاءت بالإخوان في مصر وتونس، وأن كبيرهم في أنقرة كان يبشر بأن مجاميعه الإرهابية الإخوانية، التي دمرت ليبيا واستولت عليها، قادمة لتستولي على سورية. كثيرون اقتنعوا بأننا وصلنا إلى اليوم العاشر وأن علينا الخضوع لإرادة مروضينا.

جاء فجر اليوم الحادي عشر، لنجد نمور الجيش العربي السوري يكيلون الضربات لمجاميع الإرهابيين وللمشاريع التي تقف خلفهم. دخل محور المقاومة المعركة وبدأت الغابة تلوح في الأفق من جديد، واستعادت النمور زئيرها في القلمون ودير الزور وحمص وحلب.

تلقى التنظيم الإرهابي صفعة كبرى في مصر، عندما خرج المصريون إلى الشوارع لإسقاط حكومة الإخوان، فتلقف الجيش المصري الدعوة وأعاد كتابة تاريخ مصر بعيداً عن هذه الجماعة. وتونس التي اعتبرها البعض إشارة الانطلاق لربيع الخيانة.. ها هي تنفض عن كاهلها أدران تنظيم الإخوان، وتغسل صفحات تاريخها من قتلة شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

مع الاعتذار لزكريا تامر فإن النمور لن تأكل الحشائش، لعل تلك التي روى قصتها لم تكن سوى قطط سمان ترعرعت على موائد الحكام، أما النمور الحقيقة فالغابة تسكنها، وهي لن تنسى الزئير، ولن تقبل يوماً بغير الحرية.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
بقيمة تجاوزت تريليون ليرة.. 28 مليون مطالبة مالية عبر منظومة الشركة السورية للمدفوعات الإلكترونية أميركا تعود إلى مسار «اليوم التالي» بمقايضة ابتزازية.. و«كنيست» الكيان يصوّت ضد الدولة الفلسطينية.. المنطقة مازالت نهباً لمستويات عالية المخاطر مع استمرار التصعيد شهادتا تقدير حصاد المركز الوطني للمتميزين في المسابقة العالمية للنمذجة الرياضية للفرق البطل عمر الشحادة يتوج بذهبية غرب آسيا للجودو في عمّان... وطموحه الذهب في آسيا مسؤول دولي: أكثر من ألف اعتداء إسرائيلي على المنشآت الصحية في قطاع غزة برسم وزارة التربية.. إلى متى ينتظر مدرسو خارج الملاك ليقبضوا ثمن ساعات تدريسهم.. وشهر ونصف الشهر فقط تفصلنا عن بدء عام دراسي جديد؟ إعلان نتائج انتخابات مجلس الشعب للدور التشريعي الرابع.. القاضي مراد: الانتخابات جرت بإشراف قضائي كامل بدءاً من الترشيح وحتى إعلان النتائج السفير الروسي في لبنان: لا يمكن لأي بنية مدنية أن تكون هدفًا لنزاع مسلح وروسيا التزمت بذلك ما الغاية والهدف من إقامة معسكر تطوير مهارات كرة السلة للمواهب الواعدة ؟ "لوثة" تنعش سوق الاستطباب الخفي في سورية.. اضطراب تشوه صورة الجسد حالة نفسية تلاحق الجنسين..والنتائج غير حميدة