التَّحدّي رقمُ واحد
تكثرُ التحدياتُ في زمن الأزمات.. فبينَ الصعبِ وتوهّمهِ تختلطُ الأوراقُ عادةً، وتطفو تقاريرُ الذرائعِ فوقَ حقائق الوقائع، ويتعملقُ متهمُ الواجهةِ الذي تتكاثر مرادفاتُ مسمّياته بين أزمةٍ وحصارٍ وحربٍ، ويتحول من خصمٍ واقعيّ إلى كائنٍ خرافيٍ.
بالفعل التحديات كثيرةٌ ومتزاحمةٌ – ولو بمعنى مجازيّ- في بلدٍ كسوريةَ، مكث في عين عاصفةٍ إقليميةٍ لأكثرَ من عقدٍ من الزمن، وبما أن المواجهاتِ استحقاقاتٌ فلابدّ من ترتيبها كأولوياتٍ، وقد تكون حذاقةُ الترتيب والتصنيفِ هي ذاتها مقدماتُ النجاحِ وقاعدة نبوءاتهِ الصحيحةِ..
ولا نظنّ أننا سنبتعد عن الواقع وحتمياته لو ادعينا أن تشخيصَ حجمِ كل تحدٍّ والإحاطة بجميع حيثياته هي المقدمة اللازمة والسابقة حكماً لأي تحرك باتجاهه، وهذا لا يكون ولايمكن إلا من خلال رقمٍ إحصائيٍ دقيقٍ أو تقريبيٍ على أقلّ تقدير.
إن سلمنا بذلك سنتوافق جميعاً على أن الاستحقاق والتحدي رقم واحد أمامنا في سورية اليوم، هو الاهتداء إلى آليةٍ مُحكمةٍ لبناء قاعدةٍ إحصائيةٍ واضحةٍ، تتيحُ تقديراتٌ صحيحةٌ للموقف قبل أي مبادرة من تلك التي تجربها بعض مؤسساتنا وغالباً تخفق.
ولا نرمي هنا إلى الاكتفاء بالإشارة إلى الجهة المركزية الرسمية صاحبة الاختصاص “المكتب المركزي”، وإنما كل مؤسسة وتالياً كل وزارة معنية ومسؤولة عن إنتاج ما يخصها من أرقام في سياق سيرورة عملها التقليدية، بقدرٍ عالٍ من المسؤولية تجاه الجهة الوصائية الأعلى، والمسؤوليةُ يجب أن تعني بدقة هنا تبعاتٍ جزائيةً من نوعٍ ما، في حال حصول انحرافاتٍ وشططٍ يدل على ارتجالٍ للأرقام، وتضليلٍ – عن قلة اكتراث- للقرار وإرباك قطاع اقتصادي أو خدمي بأكمله.
لنعترف أننا أمام خللٍ كبيرٍ في إنتاج وتبني الرقم الإحصائي في مؤسساتنا، ولا نقصد أبداً ما يخص التداول الإعلامي، بل ماهو لازم وضروري ومُلح في عمق وأسّ الأداء والتعاطي التقليدي بين مؤسسات ووزارات الدولة.. ولعلنا لمسنا جميعاً الإرباكات والرضوض التي حصلت جراء إما غياب الرقم أو ارتجاله، وما رتبه ذلك من ظاهرة تنازع أرقامٍ وتشتيت رؤية أصحاب القرار.. كما كل متابعٍ ومهتم..
هي فجوةٌ عميقةٌ اسمها “الفجوة الإحصائية” التي تبدو أصعب لجهة نتائجها من الفجوة التكنولوجية التي نَصفُها جميعاً بأنها مشكلتنا الكبرى حالياً..
فجوةٌ أنتجت مساحاتٍ رحبةً لظهور هواة التصيد و”بيع الأرقام والمعطيات” لمن يشاء في الداخل والخارج، ممن قدموا أنفسهم كبدلاء للمؤسسات الرسمية المتخصصة، وحولوا البلد إلى ميدان تراشق أرقام سوداء مفبركة أو على الأقل ارتجالية، بضجيج يوازي ضجيج آلة الدمار على سنوات الحرب على سورية..
الآن أمسينا أمام حتمية وضع حدّ، بقرارات حاسمة، لما يجري من تشوهات وتشويهات بغض النظر أكانت قصداً أم عفواً..
أولاً.. يجب أن يُسأل كل من يقدم نفسه خبيراً اقتصادياً أو استراتيجياً و”يُطلق” رقماً، عن كيفية وصوله إلى استنتاجه “الاختراع”، إما للاستفادة من إمكاناته إن كان صائباً، أو مساءلته قانونياً إن كان مرتجلاً ومجرد هاوي استعراض..
أما ثانياً.. فمن المهم مساءلة كل جهة تنفيذية “تورط” جهة أو جهات أخرى بمعطيات وأرقام غير دقيقة.. لأن هذا يوازي بنتائجه الفساد بل ربما أخطر ..
إن تحدي الرقم هو التحدي الراهن الذي يزاحم سواه على قائمة أولوياتنا، وإن كنا جادين بتناول الملفات الساخنة -الاستحقاقات – علينا أن نتصالحَ مع أرقامنا، وهو تصالحٌ مع الذات لا مجال للإنجاز والنجاح من دونه.