كانت لنا دار وكان لنا وطن

تشرين- إدريس هاني:
قصيدة هاشم الرفاعي «وصية لاجئ»، تلخّص مأساة شعب بحروف كانت تئنّ حنيناً وشوقاً، يروي حكاية اختطاف شعب من أرضه، بعضه بات تحت التراب والآخر في حضن الغربة والنزوح: أنا يا بُنيَّ غداً سيطويني الغسق
لم يبق من ظل الحياة سوى رمق
ما جريمة الإنسان الفلسطيني؟ ومن يملك أن يحكم على موقف حركة تحرر وطني؟ الفلسطيني اليوم يقاوم من أجل البقاء والحرية، الحق في البقاء والحرية، وهما أول بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما أنّ الحق في نضال الشعوب لتقرير مصيرها حق تستر في الشرعة الدولية.
وجريمتي كانت محاولة البقاء
أنا ما اعتديت ولا ادخرتك لاعتداء
المهم في هذا المدخل الذي أحببت أن أطرزه على منوال هذا الأنين للرافعي، ذلك المقطع الذي يلخّص أكذوبة التسويات التضليلية حيث يقول:
سيحدثونك يا بُنيَّ عن السلام
إياك أن تصغي إلى هذا الكلام
كالطفل يخدع بالمنى حتى ينام
لا سِلمَ أو يجلو عن الوجه الرغام
صدقتهم يوماً فآوتني الخيام
كنت مدركاً أيما إدراك أنّ لا أحد يمكنه قلب الطاولة على سائر صنوف التسويات غير العادلة، سوى الإنسان الفلسطيني، الميدان هو الذي سيحسم الوضع، وأنّ كل محاولات الإقناع، أو حتى الإثخان في إصدار الأحكام لا تنفع، الحق الفلسطيني لا يحتاج إلى مزيد من النّقاش، لأنّه حق بديهي.
التحليل السياسي للقضية في هذا الطور، الذي تمتزج فيه مشاعر الفرح بالآلام التي يعانيها الشعب الفلسطيني المظلوم، يجب أن يناسب – أي التحليل- شروط التطور في الاستراتيجيا والتكتيك، اكسروا الأدوات القديمة والبالية، واقتنوا أدوات جديدة، لأنّ الميدان سبق التحليل، و«البواريد» باتت تبصق ناراً في وجه المُعتدي.
مازالت شريحة مجهرية تتحدّث عن السّلام بلغة الأمم المتحدة التي ظلت قراراتها معطّلة نتيجة الرِهان على القوة والتفرد بقرار الحرب، ماذا يعني الاحتكام إلى القرارات الدولية وخطة السلام العربية سوى الانطلاق من الأمر الواقع الذي فرضته هزائم العرب، ومقتضاه الانطلاق من التسوية على أساس «حلّ الدولتين»، وهو الحل الذي كفر به الاحتلال منذ فتح المجال للأحزاب الدينية التي تكفر بما هو كوني في المعقول السياسي، والتي ترى في قتل المدنيين رخصة مفتوحة.
ثمة، وفي ذروة المأساة الفلسطينية، واستهداف أهالي غزّة بحرب الإبادة الجماعية، بعض الخونة – وهذا وصف متواضع جداً في حقهم – يعلنون اصطفافاً غريباً ومقرفاً مع الاحتلال، وهذا من ناحية أخرى يظهر بؤس اللوبيات الناشطة على امتداد الوطن العربي، يراهنون على الوهم ويتاجرون بالمفارقة، ومسلسل تبريرهم التبسيطي فيه استغباء للرأي العام الذي بات أعمق وعياً منهم، هؤلاء «البّاندية» لا يؤمنون لا بأوطان ولا بشعوب ولا بمبادئ.
ولعله من غباء الاحتلال أن يمنح كلامهم قيمة، ويراهن على «خنازب» مُشوشة على استقامة الصفوف، لأنّهم بقّة في بحر من الممانعة الشعبية، الاحتلال بليد، لأنّ مجموعة من مافيا المتاجرة في الأزمات حولتهم إلى مصدر تمويل لمشاريع فاشلة، لأنّ القضية الفلسطينية امتزجت بالذاكرة، ولا أحد يملك أن يُشرّح ويقوض الذاكرة، لن يظفروا بالذاكرة، أنسيتم السؤال البرغسوني: أين توجد الذاكرة، لا بل أين يوجد الشعور؟ بل أصبحت أيضاً عنصراً داخل الكريات الحمراء، وللخراصين وابل من لعنة الشعوب الحرة.
كثر المحللون الذين يقلبون المجن، كما كثر المحللون الذين يقفون في منتصف العقبة كحمار الشيخ، لأنّهم ما زالوا غير مستوعبين ما يجري في المنطقة، بل هناك من يتحدث بلغة القطع وليس في جيبه معطى واحد، ولكن هواية البرققة واستحمار الرأي العام ما زالت تسمح لخبراء مضغ علكة الجهل المركب والنصب والاحتيال الميديولوجي في ميدان معركة الوعي.
ومهما تمّ تقييد صوت الحرية والحقيقة، في تواطؤ مع ذبّان المتاجرة وركوب الأمواج القصيرة، فهذا لن ينفع، لأنّ زمام المبادرة كما قلنا هو الميدان، هناك فقط تُرسم خريطة الطريق، وهناك فقط تظهر ملامح المستقبل، إنّ عقدة حقارة في حالة اختلال مزمن هي من يجعل بعض صيصان التحليل السياسي يرون في «طوفان الأقصى» قضية جرت تحت أعين من أعطوا الضوء الأخضر لها كي تمر، قراءة متذاكية، تنطوي على خلفية انهزامية وعدم القدرة على إنصاف عبقرية الكائن الفلسطيني، الذي راكم من تجارب الكفاح في مواجهة قوة فائقة.
قبل إنجاز العملية، كان الحديث عن اختراق في صفوف حماس، تغنت به وسائل الإعلام، وانتشى به الاحتلال في نوع من الحرب النفسية بأنّ لا شئ يجري بعيداً عن عيون الاحتلال، بتعبير مغربي: (البق ما يزهق)، لكن «طوفان الأقصى» قلب كل شيء، والناطق المهرج باسم دفاع العدو دخل في موجة من التناقضات والاستخفاف بمكر الكفاح الفلسطيني الذي اقترب من مكر التاريخ، هذا بينما بعض وسائل الإعلام العربية تمنح فرصة للاحتلال بأن يعبر عن موقفه تحت ذريعة الرأيين المتعاكسين، تطبيع إعلامي ملوّن.

كما نتوقّع أن بعضاً من الطائرات التي قد تدخل طرفاً في الحرب في حال اتساعها، ستنطلق من دول عربية وأخرى إسلامية، لسانها مع فلسطين وعقلها مع الاحتلال، من ركع مرة واحدة أمام نصب هرتزل، لن تنتظر منه خيراً، لا خوف على المقاومة الفلسطينية، لأنها هذه المرة ستخوض المعركة داخل الأراضي المحتلة، كما خاضها الاحتلال داخل الدول العربية.
ولقذ ذكّرنا مراراً بأنّ الوثب والنطّ في الاستشراف يصبحان وبالاً، وها هي الهند، العضو المؤسس في «بريكس»، تعلن اصطفافها إلى جانب المحتل، وكانت قراءاتنا مرة خرى تخلط بين الاستراتيجيا والتكتيك، بين الجوهر والعرض، بين المبدأ والفرصة، لقد ساهم «طوفان الأقصى» في إظهار الأمور بشكل أوضح، لكنها أيضاً ساعدت على فرز الساحة وتبيّن بعض خطوط المستقبل، إنّ لعبة «الإرعاب» التي تمارسها القوى العظمى ترهيباً للفلسطينيين، لن تغير شيئاً، لقد اكتملت معادلة الصراع بشروط يدرك الجميع أنها تختلف عن أي وقت مضى، وهذا ما أكده فريدمان حين باح بما قاله له ناحوم بارنيا – كاتب ركن في يديعوت أحرونوت- بأن ما يحدث اليوم هو أسوأ يوم في تاريخ الاحتلال، ومع كل ذلك يصعب أن تفطم الأذهان التي ما زالت تشكك في قدرة المقاومة الفلسطينية على المبادرة والإبداع.
خطاب الأنسنة التضليلي، يحجب بالتواطؤ الرصيد الأعلى لجرائم الحرب التي يقوم بها الاحتلال يومياً، وما زال يخطط للاستيطان والتوسع وتهجير الأهالي، تلك الصور من أعمال الإبادة لا يتحدث عنها المنتظم الدولي منذ عقود إلا بلغة المساواة التضليلية بين الطرفين، مبدئياً وميدانياً هناك معتد واحد، واحد فقط، هو الاحتلال.
ثم ماذا بعد؟
نحتاج إلى مزيد من التحليل والمقاربة، بناء على جهد واجتهاد، إلمام بالشروط والسياقات، امتلاك «داتا» كافية بالتفاصيل الواقعة والمتوقعة، لأنّ من يتحدث ببيانات مقطّعة وتأويلات جرباء لن يدرك حقيقة ما يجري، لا بدّ إذن من شحذ الأدوات وتجاوز التكرار حفاظاً على البيئة الخلوية للتفكير، التكرار جمود، فضيلة الإنصات، دعوا عنكم كل الأغراض المشوّشة على التفكير العلمي والحرّ، إنّ التطور الذي تشهده المنطقة على إيقاع رفيع من الأداء، يفرض تنظيف الباراديغم الداخلي، ومع ذلك أستطيع أن أطمئن الجميع بأن العنصر الأساسي، والأساسي فقط هو مخرجات الميدان، وكل هُراء لن يقدم أو يؤخّر شيئاً في مسار تسلكه «البواريد»، وأمام الشهداء الذين يموتون لتحيا الأوطان، أو الشهداء الأحياء الذين يقتلون أنفسهم بالتربية والزهد والنقاء وعدم الزحف على البطون كالأفاعي الرقطاء تدويخاً للرأي العام، كل هذا لن يوقف منطق الأشياء، أتذكرون محمود درويش:
الشهيدُ يُحاصِرُني: لا تَسِرْ في الجنازة
إلا إذا كُنْتَ تعرفني..
لا أُريد مجاملة من أَحَدْ.
الشهيد يُحَذِّرُني: لا تُصَدِقْ زغاريدهُنَ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار