ملف «تشرين».. الأطفال في قلب التهديد وبعض الأسر تعود أدراجها ما بعد الهجرة.. مكاسب مهنية وخسائر اجتماعية

تشرين_ رشا عيسى:
رغم أن الهجرة واقع يراود الشباب والأسر كثيراً مدفوعاً بصعوبات اقتصادية وحياتية يواجهها الجميع في هذه الظروف القاسية الواقعة على بلدنا، لكن ظهور نوع من المخاوف داخل المجتمعات الجديدة بات خطراً على هذه العائلات المهاجرة وبعضها وصل إلى مستوى دفعهم للتفكير بالهجرة المعاكسة حماية لأطفالهم بالدرجة الأولى.
اتجاه بعض الأسر المهاجرة لاتخاذ قرار معاكس بالعودة إلى الوطن تحول إلى أمر ملموس للعديد من الحالات، حيث بدأت هذه الأسر تصيغ حياتها من جديد بعد سلسلة صدامات اجتماعية تعرضت لها وانعكست مباشرة على تربية أبنائها.
تغيير الخطط لسنوات مقبلة حفاظاً على الأولاد وقيم التربية بات هدفاً أساسياً للقيام بهذه الخطوة في ظل تحولات جوهرية تعرضت لها حياتهم الأسرية نتيجة وجودهم في بيئات تربوية ونفسية مناقضة للقيم والتقاليد التي نشأت عليها هذه الأسر، فضلاً عن التهديد بخسارة أبنائهم والخوض في تجارب انتزاع حضانة أطفالهم منهم لرفضهم تلقيهم بعض التعاليم والدروس داخل المدارس التي باتت تروج لـ«المثلية».

وقائع مؤلمة
قصص واقعية باتت تتردد كثيراً لدى المهاجرين وخاصة هذا الصيف حول عدم الشعور بالأمان لجهة بقاء الأطفال في هذه البيئات، كما تقول السيدة سارة المهاجرة في الولايات المتحدة منذ ثلاث سنوات تقريباً، وحالياً تفضل البقاء قي دمشق برفقة طفليها، بينما يبقى زوجها يتابع عمله بولاية كاليفورنيا الأميركية.

د. سلوى شعبان: ما ذنب طفل يتربى في مجتمع يوفر له كل مستلزمات الحياة ومن ثم يتلقى ويتجرع السم المدسوس له في عسل معيشته كالحريات المغشوشة ومصطلحات الجندرة والمثلية وتجويف مفهوم الأسرة

لا تبدي أي تردد بإعلان قرارها، والسبب وراء ذلك الحفاظ على أطفالها حيث بدأ طفلها ذو السنوات السبع بالحديث عن رفضه أن يكون ذكراً، كما رفض اطلاق اسمه عليه، لأن من حقه أن يختار أن يكون ذكراً أو أنثى كما قالت لوالدته.
وعند مناقشته بذلك تأكد للوالدين أنه يتلقى دروساً ضمن القاعات الصفيّة حول هذا الموضوع من دون علم الوالدين، وعند مراجعة القائمين على المدرسة، رفضوا الاستجابة للأهل واعتبروهم عنصريين ومعارضين للحريات الشخصية، حيث من حق أي شخص أن يختار أن يكون «هو أو هي» بغض النظر عن تكوينه الطبيعي، كما زعمت المشرفة على هذه المادة ضمن المدرسة، ليفاجأ الأهل بأنه ممنوع عليهم أن يعبروا حتى عن رفضهم لذلك، وأن الاستمرار بالرفض يهددهم بأن يخسروا طفلهم لمصلحة إحدى جمعيات رعاية الأطفال المُعنفين، وإن استمروا بذلك سيتم انتزاعه منهم بذريعة أن القوانين في هذه الولاية تدعم موضوع «المثلية» بل تشرعه، وبالتالي الرفض والانتقاد يعنيان عدم الامتثال للقانون وأيضاً خسارة الطفل وإعطاء حق رعايته لإحدى الجمعيات.
بدورها، السيدة منال تواجه أيضاً معضلة مشابهة، بعد أن واجهت برفقة زوجها رفضاً شديداً لمُدرّسة ابنهما التي تبين لهما أنها تتبني سياسات من شأنها إخفاء «التحول الجندري» للأطفال داخل المدرسة عن الوالدين، ويتم دعم ذلك عبر توزيع كتب مجاناً في المدارس بهدف دمج «النوع الجنسي» كما أخبروهما، كما أن عليهما أن يفهما تماماً كوالدين – كما أوضحت لهما إدارة المدرسة – بأن الأشخاص مختلفون، وانطلاقاً من هذه المقولة عليهما ألا يعترضان على تدريس أبنائهما وإدخال هذه معلومات إلى المناهج ما سبب صدمة لهما.
الحلم المغشوش
الباحثة في القضايا التربوية والنفسية والمستشارة في التنمية البشرية الدكتورة سلوى شعبان وجدت أن الهجرة هي ذلك الهاجس الذي يؤرق معيشتنا وتفكيرنا والذي يستهوي أبناءنا الشباب ذكوراً وإناثاً، إذ تعد الهجرة الحلم الوردي المرافق لمخيلتهم الخصبة والندية والمحملة بالأفكار الإبداعية والولّادة للطاقات المبهرة في ساحات العلم والعمل، ولعلها الاختيار الأوحد لتحسين الحياة والهروب من التحديات والصعوبات الحياتية التي نتصارع معها يومياً صغاراً وكباراً، وهذا الحصار الاقتصادي الذي حرمنا نعمة التمتع بلقمة العيش والشعور بأننا ما زلنا أحياء نستحق الاستمرارية لبناء وطننا الغالي.
ونظراً لكل ما ذكرت فهناك الأعداد اللافتة للانتباه وبالآلاف تغادر مطاراتنا يومياً وبكثرة مع عائلاتها، ما أدى إلى خلل في تركيبة مجتمعنا السوري.. هذا المجتمع الذي كنا وما زلنا نتباهى بدمه الفتي وشبابه العظيم والقادر والمتمسك بتراب الوطن والمدافع عن كرامته وعزته، كما تعد هجرتهم استنزافاً لقوة البلد وتهديداً مباشراً للمستقبل القادم من الأيام.

د. رشا شعبان: نحن أمام خسارة مضاعفة لمن غادر أولاً ولأبنائه ثانياً

والذين سيتحولون بشكل أو آخر إلى جزء من المجتمع الذي تربوا فيه وأيضاً منتمين إليه

وأكدت شعبان أنه من حق الشباب البحث عن فرصة العمل وتطوير مهاراتهم وقدراتهم وإغناء مقدراتهم بمتابعة علمهم بالشهادات الكبرى، وبالوقت نفسه العمل للشعور بالتوازن الحياتي والاستقرار النفسي.
ومن خلال البحث والتقصي والإحصاء فهناك حملة الشهادات العلمية المميزة وأصحاب الخبرات والمهارات هم الأكثر طلباً للهجرة والأكثر بحثاً عن مورد للحياة الكريمة والأجدر بالبحث عن النجاح والتمتع بما حصلوا عليه من شهادات.
البلد يفقد أبناءه وطاقاته الحية ومن بعده عائلات بأكملها والمستفيد الأول هو الدولة المستضيفة والمستقطبة لهؤلاء الشباب بالمغريات المختلفة والذين شكلوا دعامة حقيقية لاقتصادها وعلمها وجامعاتها بأبحاثهم ومخترعاتهم وإنجازاتهم اللافتة للانتباه، وفي الوقت نفسه هم تابعون بالولاء لهذه الدول الغربية والأجنبية بكل ما تمليه عليهم من شروط وإملاءات تربطهم بها وتجبرهم على البقاء لديها، ناهيك بما نسمع عنه لاحقاً من مسميات مرعبة ومخيفة تتناول المعتقدات والأفكار والدين والآداب، فما ذنب طفل يتربى في مجتمع يهتم بطفولته ورعايته وشاب تتحقق أحلامه في بلد يوفر له كل مستلزمات الحياة ومن ثم يتلقى ويتجرع السم المدسوس في عسل معيشته، كأفكار الحريات المغشوشة ومصطلحات «الجندرة والمثلية» وتجويف مفهوم الأسرة الواحدة وتشويه الثوابت التي تربوا عليها، فلا عجب أن يعترض الطفل مستقبلاً على أهله ووجوده معهم والتخلي بسهولة عنهم كما نرى في تلك الدول التي تتحدث بحقوق الإنسان والحريات، ولا عجب أن يُجبَر المرء على ممارسة فعل لا يمت بصلةٍ لتربيته التي نشأ عليها.

ثمنٌ غالٍ
وتوضح شعبان أن كل شيء له ثمن، وأحياناً ثمن غالٍ جداً، يدفعه طالب الهجرة.. خسارة الوطن لأبنائه وخسارة الأفراد لحريتهم وأسرهم وكرامتهم، عدا عمن فقدوا حياتهم وحياة عائلاتهم غرقاً وموتاً بأبشع الطرق.
الموضوع مؤلم وخطر وحساس، لذلك لا بد من إيجاد الحلول للحد من هذه الهجرة وتحسين مستوى الحياة ورجوع الأبناء الذين درسوا في الخارج إلى البلاد للمشاركة في دعم الوطن ونهضته وعمرانه.

خسارة مضاعفة
من جهتها الباحثة الاجتماعية الدكتورة رشا شعبان، أكدت أنه من الأهمية بمكان التأكيد أن نهضة الشعوب قائمة على عقول أبنائها وهذا يعني أن الثروة البشرية هي ثروة العقول، وأن الدولة دفعت لتعليم هذه العقول لكنها ضيّعت استثمارها لاحقاً، أي ضيعتهم عندما لم تؤمّن الفرص المناسبة ليعملوا، وهنا كانت الاستراتيجية المتبعة نابذة وليست جاذبة، ولذلك يجب التخلص من القوانين البيرقراطية والإدارات غير الفاعلة، فنحن أمام خسارة مضاعفة لمن غادر أولاً ولأبنائه ثانياً، والذين سيتحولون بشكل أو آخر إلى جزء من المجتمع الذي تربوا به وأيضاً منتمين إليه.

فقدان أبرز عناصر الإنتاج
ومن الناحية الاقتصادية يوضح الباحث الاقتصادي الدكتور مجدي الجاموس أن هجرة الأدمغة أو العمالة بشكل عام تؤثر جداً في اقتصاد أي بلد لأنه من عناصر الإنتاج الأساسية إلى جانب رأس المال والمواد الأولية، لذلك عدم وجود عنصر مهم وفعال من عناصر الإنتاج ينعكس سلباً على الاقتصاد عموماً.

د. الجاموس: المهاجرون وإن أُمّنوا بفرص عمل جيدة

إلا أنهم بالمقابل غير آمنين اجتماعياً خصوصاً على أطفالهم

ويذهب الجاموس أبعد من ذلك ليحدد أن الأمر ليس متعلقاً بفقدان عنصر مهم من عناصر الإنتاج، بل خسارة اقتصادية عميقة، ونحن نتكلم عن نوعين من الأيدي العاملة وهي الأيدي العاملة المختصة من أصحاب الكفاءات، وأصحاب الأيدي العاملة العادية وهم عنصر مهم لأي اقتصاد.
ويوضح الجاموس أنه قبل الحرب- أي قبل عام 2010 – كانت هناك هجرة كبيرة تتجاوز نسبتها 50%من الدول العربية إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا وأميركا اللاتينية بحثاً عن فرص عمل أفضل ومردود أفضل، وكان ما نسبته 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم الأصلية بسبب الحصول على فرص عمل أفضل.

رأسمال اجتماعي
ويجد الجاموس أن الخسارة الكبيرة أننا لا نعتبرهم رأسمالاً فقط، بل أيضاً كرأسمال اجتماعي، وهنا الخسارة الكبرى على مستويين، أي على الاقتصادات الوطنية وعلى خبرات أبنائنا المهاجرين أنفسهم الذين إن أُمنوا بفرص عمل يشعرون بالخسارة من ناحيتين الأولى الوطن والانتماء، وثانياً العلاقات الاجتماعية لذلك الخسارة واقعة على الطرفين.

توفير بيئة استثمارية آمنة
يرى الجاموس أن الحلول الأساسية لمعالجة هذه المشكلة عبر توفير بيئة استثمارية من الناحيتين القانونية والاقتصادية، وتوفير هذه البيئة مهم جداً لتشجيع الجميع على الاستثمار وبناء الاقتصاد الوطني وبالتالي الحفاظ على العمالة.
وعندما تتوفر البيئة الاستثمارية المناسبة سيتم جذب ليس فقط رأس المال الاجتماعي والأيدي العاملة بل سيتم جذب أيضاً رأس المال الحقيقي للمغتربين سواء في دول الخليج أم في أوروبا أو في أي منطقة أخرى حول العالم.
الأساس للحفاظ على الأيدي العاملة سواء الكفوءة أو العادية هو توفير بيئة استثمارية تشجع على الاستثمار كما حدث في تجربتنا في سورية عام 2008 و2009، حيث أدخل جزء كبير من المغتربين إلى البلد استثمارات متنوعة سواء عقارات أم فنادق أو مطاعم وهذا متعلق بتوفير بيئة استثمارية آمنة وجيدة وتشجع على الحفاظ على الموجود وجذب الآخرين أيضاً.

اقرأ أيضاً:

ملف «تشرين».. كل شيء يبدأ من الطفل ومن خصوصية التنشئة الأولى.. أبناء المهاجرون في مرمى الأطماع الغربية: الكلمة لنا

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
صناعة دمشق وريفها تقترح تشكيل لجنة تَدخّل من الجهات المعنية واتحاد غرف الصناعة لحل مشاكل الاستيراد والإسراع بتخليصها بهدف الاستمرار بالعملية الإنتاجية السوداني يبلغ أردوغان: العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة في سورية مجلس الشعب يتابع مناقشة تقرير لجنة الموازنة والحسابات حول مشروع موازنة ‌‏2025 زيادة المعروض السلعي وتشديد الرقابة على الأسواق.. مجلس الوزراء يوافق على خطتي "التربية والتعليم العالي" لاستيعاب تلاميذ وطلاب حلب تشكل خطراً على العين..ما متلازمة النظر للحاسوب؟ الخارجية الإيرانية: إيران أوصلت رسالة واضحة بشأن دعمها الحاسم لسورية ضد الإرهاب الحزب الشيوعي البرازيلي والمركز البرازيلي للسلم يعربان عن تضامنهما مع سورية بمواجهة الإرهاب توقف عملية إحصاء الثروة الحيوانية في مجال زراعة حماة واستكمالها في الغاب بين المد والجزر الحسكة تواصل تأهيل آبار مياه الشرب في ريف المحافظة جلسة لمجلس الأمن حول سورية تكشف وتوثّق.. أميركا تستبق بالتصعيد وجيشنا يعيد رسم ‏معادلات الميدان