الإبداع بين الصالة والطريق العام
علي الرّاعي:
يُروى عن عازف الكمان الأمريكي “جوشو بيل” الحكاية التالية: إنه في صباح يومٍ باردٍ، وقف رجلٌ في إحدى محطات المترو، في العاصمةِ الأمريكية واشنطن، وبدأ العزفَ على الكمان عزف مقاطع مختارة لـ”باخ” لمدّةٍ قاربت الربع ساعة، وذلك في ساعة ما يُسمى “الذروة” في المحطة، حيث مرّ خلالها نحو (1100) شخص، ويُضيف إنه عندما مرت الدقائق الثلاث الأولى؛ تباطأ رجلٌ في منتصف العمر في سيره، وتوقف بضع ثوانٍ وهو يستمع للعزف، بعدها بدقيقة تلقى العازف الدولار الأول، ألقتُه امرأةٌ من دون أن تتوقف، فيما شخصٌ آخر استندَ إلى الجدار للاستماع إليه بضع دقائق ثم مشى مُستعجلاً، وأكثر من أبدى قدراً من الاهتمام طفلٌ عمره ثلاث سَنَوات، كانت والدته تحثّه علی السير، لكنه توقف لإلقاء نظرة على عازف الكمان، وأخيراً واصل الطفلُ المشي مديراً رأسه طوال الوقت، وكرر هذا الأمر العديد من الأطفال الآخرين.. في الـ(45) دقيقة من عزف الموسيقا يقول عازف الكمان: لم يتوقف ويستمع سوى ستة أشخاص، وعشرون شخصاً قدموا ما مجموعه (32) دولاراً ثم واصلوا السير بوتيرةٍ طبيعية، عندما أنهى العزف لم يلاحظ ذلك أحد كما لم يصفق له أحد، ولا أحد لاحظ أن عازف الكمان هذا هو (جوشو بيل)، كواحدٍ من أشهر الموسيقيين في العالم، وأنه عزف مجموعة من القطع الموسيقية الأكثر تعقيداً لعبقري الموسيقا (باخ)، وأنه يعزف علی كمان قيمته ثلاثة ملايين ونصف مليون دولار، وأنه قبل يومين من لحظة عزفه في مترو الأنفاق، بيعت بطاقة الدخول لحفلته في أحد المسارح في بوسطن بمتوسط مئة دولار.
والسؤال الذي يُبادر إلى الذهن ما الفرق بين العزف في مكان عام، والعزف على مسرح أوبرا؟ وهل المكان هو من يُعطي القيمة للإبداع؟ مع ذلك ثمة الكثير من المبدعين على شاكلة (جوشو بيل) يلجؤون إلى مثل هذه المغامرة، لكن بالتأكيد ليس بطريقة (بيل)، ذلك أنه غالباً يكون قد تمّ الإعلان مُسبقاً عن مغامرة كهذه، وهي اختيار الأمكنة غير المتوقعة لعرض نتاجهم الإبداعي، وغالباً الغاية من وراء هذه النقلة، استهداف جمهور مختلف – ربما غير متابع- لنتاج هذا المبدع، أو حتى ليس له أي متابعة لأي نتاج إبداعي، من هنا يقوم المبدع بأخذ نتاجه للمتلقي إلى مكان عمله، أو إلى مكان عبوره، أو مروره اليومي، أو إلى المكان الذي يستريح فيه، مادام الأخير إما أنه لا يجد الوقت الكافي لأن يتابع هذا النتاج أو غيره، أو أنه بالأساس غير متابع بالمرة، وفي الحالين يكون المبدع قد وفرّ الفرصة لهذا المتلقي لأن يُقيم صلاتٍ ما مع نتاجه، في سبيل تعويده على المتابعة الثقافية على أشكالها، أو الهدف: متلقٍ ملَّ الأمكنة المعتادة، للدرجة التي “بطّلَ” الذهاب إليها لأسبابٍ كثيرة، منها الملل من المكان ذاته، أو من الموظفين شبه الأميين القائمين على المكان بحيث “يطفشون” أيَّ متابعٍ مهما كانت شدّة حماسته، أو أنّ هذه الأمكنة لا تحمل من “الثقافية” غير اسمها، ومن ثمّ كانت المقاطعة، ولنا في ما يقارب الخمسمئة مركز ثقافي ضاعت جهة التبعية لها بين وزارتين (الثقافة والإدارة المحلية) مثال مخيف في هذا المجال.!
إذاً، ومن أجل إعادة هذا المتلقي إلى جادة الثقافة، كانت الأمكنة البديلة من الأرصفة، والمواقع الأثرية، والشواطئ، والحدائق، ومحطات القطارات، والمقاهي، والبيوت القديمة، وغير ذلك، بدائل للصروح الثقافية الفخمة، التي تصفرُ فيها الريح غالباً، أو قد تكون متممة للصروح السابقة، تتكامل معها وليست على النقيض بالضرورة، وقد يكون إحياء بعض الأمكنة مقصوداً لذاته، كما في المواقع الأثرية على سبيل المثال، أو يكون لأسباب سياحية وتجارية في أحيانٍ أخرى بجذب شريحة معينة، وهي فئة المثقفين، الذين تروقُ لهم هذه الأمكنة من دون غيرها، فيحصلون على “ثقافتهم” خلال تناول فنجان قهوتهم الصباحي أو سهراتهم بحيث يصيرُ المكان عنواناً لهذا «المثقف»!.
حتى إنّ بعض التجارب الإبداعية، عُرفت باختيارها للأماكن البديلة، أو قد تجاهلت تماماً عرض نتاجها في الأماكن المعروفة، أو المعتادة بتقديم نتاج كهذا، حتى صار اختيارها للمكان البديل من خصوصيتها، فشاهدنا معارض تشكيلية بعيداً عن الصالات، في الحدائق والمقاهي، وعروضاً مسرحية بعيداً عن “الخشبات” بل في الشوارع والأماكن الأثرية والشقق والأنفاق والأسطح وأمسِيات شعرية بعيداً عن المنابر، بل في بهو فندق، أو عند نبع، أو عين ماء.
فالفنان هنا هو من يتحكّم بطريقة العرض وبالتوقيت، كما أنّ الناس الذين يرتادون الصالة محدودون جداً، وهم أنفسهم الذين يحضرون الفيلم السينمائي، والعرض المسرحي، والأمسيات الموسيقية والشعرية، وغالباً هؤلاء لهم رأي متشابه في كل ما يتلقونه، وعند العرض في الأماكن البديلة فإنّ المبدع غالباً ما يحصل على انطباعات مختلفة، ولنا في تجارب ريم الخطيب التشكيلية، ونورا مراد في كل عروضها الحركية المسرحية، نموذجان رائعان، بينما نمر سلمون يؤكد: أنه ممثل شوارع بامتياز.!