في فضاءات الأدب الوجيز .. نصوص مُبكرة وجدّة في المُصطلحات والتجنيس

علي الراعي:

ثمة قصة للروائي الراحل نجيب محفوظ (1911 –2006) بعنوان “هجر” يقول فيها: «لم أشعرْ بأنهُ ماتَ حقاً، إلّا في مأتمِهِ، شُغلتْ المقاعدُ بالمعزين، وتتابعتْ تلاوة القرآن الكريم، وانهمكَ كلُّ متجاورين في حديثٍ، فذُكرتْ حوادثُ لا حصرَ لها، إلّا الراحل فلم يذكرهُ أحدٌ.. حقاً لقد غادرت الدنيا أيها العزيز، كما أنها قد غادرتك».

قديمةٌ قدم الكتابة نفسها النصوص ذات المنحى من (قُصارى القول)، وربما الجديد اليوم في التسميات، وفي التنويع، وتحديد هوية الجنس الإبداعي للنص القصير، وكذلك في المُصطلحات النقدية.. والأدب الوجيز الذي نشتغل عليه منذ عقدٍ ونيّف من السنين له مقارباته البعيدة في المدونة السردية، ربما يعود بعضها إلى زمن اليونان القديمة عندما راح (إيسوب 620- 564 ق.م) في الزمن الإغريقي القديم- القرن الخامس قيل الميلاد يُقدم حكمه التي اتخذت شكل ما يُسمى اليوم القصص القصيرة جداً، المُصطلح الذي سجله السوريون خلال تسعينيات القرن الماضي، مع ما وازى ذلك من تكثيف في بقية الأنواع الأدبية، وذلك ما تجلى من خلال الإيماض في الشعر، الذي كان حصيلته الكثير من: التوقيعات، الشذرات، والومضات، وما عُرف بقصائد النانو الشديدة التكثيف، وهو الأمر الذي انسحب كذلك على الكثير من الأنواع الإبداعية السردية منها، وكذلك البصرية، فصرنا نسمعُ اليومَ بالرواية التي تُقرأ خلال ساعة من الزمن، إضافةً إلى الفيلم القصير، والمنحوتة واللوحة الصغيرتين في الأعمال الفنية والتشكيلية. وهنا نّذكّر بما كان أوصى به ذات حينٍ بعيد كل من الأمريكي إرنست همنغواي (1899- 1961م)، والروسي أنطون تشيخوف (1860- 1904م)، عندما دُعي الأول – صاحب الروايات القصيرة لاسيما الرجل العجوز والبحر- لكتابة قصة قصيرة من خمسٍ وعشرين كلمة، والتي تجلت في قصته الشهيرة (حذاء للبيع)، بينما أكدّ الثاني – أشهر من كتب القصة القصيرة- على ألّا تتجاوز القصة القصيرة الخمسين كلمة، والتي تجلت في قصته الأشهر (ثروة)، وللدكتور زهير سعود كتاب مهم في التأصيل لمسألة القصة القصيرة وتأريخها من الملحمة إلى القصة القصيرة جداً.. يكتب تشيخوف في “ثروة”: «منذُ أربعينَ عاماً؛ عندما كنتُ في الخامسة عشرة من عمري عثرتُ في الطريق على ورقةٍ مالية من فئة العشرة روبلات.. ومنذُ ذلك اليوم لم أرفع وجهي عن الأرض أبداً، وأستطيعُ الآن أن أُحصي حصيلةَ ممتلكاتي، كما يفعلُ أصحابُ الثروات في نهاية حياتهم، فأجدها هكذا: 2917 زراً، 44172 دبوساً، 12 سن ريشة، ثلاثة أقلام، منديلٌ واحد.. ظهر محني، نظر ضعيف، وحياة بائسة..”. فيما النقاد مازالوا يرون أنّ أقصر قصة في العالم هي للكاتب الغواتيمالي أوجستو مونتيروسو (1921-2003) قصة (الديناصور)، وهي: “حين استيقظَ كان الديناصور لا يزال هنا.”

في المقلب الآخر كان لسوريين ثلاثة آخرين دورهم في التشجيع على كتابة نصوص قصيرة مقاربة لنصوص أجنبية أخذت جذرها من الآداب اليابانية التي ميزنها أنها من (قُصارى القول) والتي أحياناً تكتفي ببعض كلمات قد لا تتجاوز العشر من مثل: الهايكو، التانغا، الهايبون وغيرها، والتي كان عرابوها السوريون: محمد عُضيمة عن أصلها الياباني، وعبده زغيور بعد انتشارها الألماني، وفي أمريكا اللاتينية، ولينا شدود عن الأمريكية، الذي كان له أثره الواسع في مختلف مناطق العالم العربي.

 

و(للبيع حذاءُ طفلٍ، لم يُلبس قط)، كتبها همنغواي لمن تحداه يوماً من سنة (1925)، أن يكتب قصة من ست كلمات فقط، وربما هي من المرات الأولى التي يُترك فيها المجال واسعاً للقارئ لأن يكون شريكاً في كتابة النص، والتي هي اليوم – ميزة إشراك القارئ في إتمام النص وتأويله- كأبرز ميزات نصوص الأدب الوجيز اليوم.. ومحاولة جعل النص يطرح الكثير من الأسئلة التي يُجيب عنها القارئ بصياغاتٍ مُختلفة من خلال ميزات بلاغية، أو البلاغة المُضادة: الإخفاء والإيحاء، والحذف، والرمز، والإضمار وغيرها والتي تفتحُ المجالَ واسعاً لإشراك المُتلقي في التأليف والكتابة.. هذه النصوص التي تكاد تضيع الحدود بين ملامحها والتي تشترك في مُختلف ميزاتها الكثيرة من: مشهدية عالية، وشعرية باذخة، وحكائية مُدهشة، وغير ذلك، ثمّ استخدامها جميعاً للتقنيات البلاغية المُضادة، إضافةً لاحتفاظها بالقيم البلاغية الكلاسيكية من تشبيه وكناية واستعارة وتنصيص، والاشتغال على الرموز وغير ذلك.. ورغم كل ما تقدّم من مُشتركات، مع ذلك لم تتماهَ في جنسٍ إبداعي واحد يشملها كلها، فقد بقي ملمح أو أكثر يُحدد الفروقات بين جنس إبداعي وآخر، مثل الحكائية والحدث الظاهرين في القصة القصيرة جداً، والشعرية العالية في نصوص الومضة، والمشهدية الطاغية في المُقاربات لما ابتكره العرب وأطلقوا عليه نفس اسمه الأجنبي..

وكنا من السبّاقين الذين أطلقوا على التقارب الشديد بين القصة القصيرة جداً والومضة الشعرية بـ(الأقصودة)، أي التي تجمع بين النوعين (القصة والقصيدة)، ومن ثمّ ارتأينا أن نجمع كل ما تقدم ضمن إطارٍ شامل هو (الأدب الوجيز).. فالشاعر الراحل رياض الصالح الحسين (1954- 1982) كتب النص التالي على أنه ومضة شعرية، في حين أنها تحمل كامل أركان القصة القصيرة جداً:

“كانا اثنين؛

أهدتّه قلماً للكتابة،

وأهداها حذاءً خفيفاً للنزهات؛

بالقلم؛ كتبَ لها: “وداعاً”،

وبالحذاء الخفيف؛ جاءت لتودعه..”.. وأخيراً؛ نختم بالقراءة بعض ما كتبه أدونيس من ومضات:

الحبُّ جسدٌ؛

أحنّ ثيابه الليل.

للأعماق منارات

لا تهدي إلاّ الى اللجّ.

شجرة الحور مئذنة

هل المؤذّن الهواء؟

أقسى السجون وأمرّها

تلك التي لا جدران لها.

كان أبي فلاّحاً

يحبّ الشعر ويكتبه،

لم يقرأ قصيدة

إلّا وهي تضع على رأسها رغيفاً.

الحلم حصان

يأخذنا بعيداً

دون أن يغادر مكانه.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار