تعويم التفاهة.. وإغراق هاماتِ اليافعين!
حنان علي:
“حتى لو سقط العالم، سوف ينقذني هاتفي المحمول”!… عبارة اختصر من خلالها الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو حال أبنائنا المراهقين في كتابه الشائق “نظام التفاهة” .
أبناؤنا إن اعتبرناهم (جيل ما بعد الحرب)، معظمهم لا ينفكون عن استهجان ما تبنيناه من أفكار وآراء ومبادئ سامية عبر الزمن. لا يلقون بالاً لكتاب ثمين، يتجاهلون متعمدين أغاني الطرب، مبتعدين البعد كله عن الإصغاء لحكمة أو نصيحة! ثمّ يأتي شاب بالعشرينيات من عمره يقف على مسارح مكتظة بمتابعيه من جيل اليافعين؛ يغني لهم بكلمات وألحان بسيطة . منهم من قطع دروباً طويلة لحضور حفلته رغم التكلفة المرتفعة، ومنهم من أصيب بالإغماء والانهيار . مئات التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي تضمنت كمّاً هائلاً من النقد للحفل أو ذوداً عنه.
لقد حوّلت السوشال ميديا لساحة جدال بحدة التفاوت بين آراء الأجيال.
الرأي النفسي:
في حوار مع صحيفة “تشرين” رأت الدكتورة ليلى الشريف المتخصصة بالعلاج النفسي والأستاذة في جامعة تشرين، أن اول بأسباب انجذاب المراهقين لهذه الفقاعات الفنية هو أن المراهقة تتميز بشدة الانفعال والاندفاع ، وهذا طبيعي بالنسبة لهذه المرحلة المرفقة بالتغيرات الهرمونية والعقلية. ومن الطبيعي أن يفرّغ المراهق طاقته في حفلة لأحد المطربين المحبوبين، فهو يحتاج لمن يمثل شخصيته ونمط أغانيه، معبّراً ببساطة عما يشعر به. وبغض النظر عن تقييم الكبار لكلمات وأغاني هذا المطرب لكن المراهق له أسبابه الملبية لحاجاته أمام جمع من المراهقين أمثاله.
وحول الأسباب النفسية لانفعال المراهقين المتطرف في مثل هذه الحفلات تقول :
الحاجة للتعبير عن المشاعر بصوت مرتفع للتحرر من كبت الأهل. بينما يعمل تقييد المجتمع لحركتهم وقمع اندفاعهم على جعلهم يستغلون الحفل الجماعي لتفريغ شحناتهم فيجدون فرصة للتمرد دون محاسبة. أعتقد أن المراهق بحاجة ماسة للحب والتعبير عنه بالعلن لأنه في قمة فورته الفيزيولوجية على المستوى العاطفي . أما ديناميكية الجماعة في المشاركة بالتعبير عن حاجاتها في موقف موحد، فتنشر عدوى الحماس والتطرف بالانفعال. وحول تدني الذائقة الفنية لدى جيل اليافعين الحالي ترى الاخصائية النفسية
ان المراهق لا يهمه نوعية أو رقي كلمات وألحان ما يغنيه هذا المطرب أو ذاك لأنه يعتقد بالنهاية أنه يعبّر عنه وعن حاجته للحب مختلف في تقييمه عنا نحن الكبار. أما عن تدني الذائقة فهذا أمر مألوف منذ مدة طويلة وما نراه من الاهتمام بالتفاهة، ليس سوى نتيجة لتحول المجتمعات وتغيرها بما يتناسب مع العولمة والتأثر بالغرب بالإضافة لرفض الواقع وغياب دور الأسرة وتحوّلها بدورها لنظام التفاهة والاهتمام بالمظاهر.
وحول سبل الحلول العائلية أوالمجتمعية المقترحة:”
الحلول أصعب من أن تطرح هنا، لكني أعتقد أن الأسر عامة؛ من الصعب عليها ضبطها مراهقيها، لذلك تحتاج لتقديم الحب ثم الحب غير المشروط لأبنائهم كي يشبعوا هذه الحاجة الإنسانية على نحو صحيح. كما يتوجب على الإعلام بدوره البحث عن خطاب وأسلوب يتفهم فيه حاجة الشباب فيؤثر بتوجيههم نحو اللائق.
تجارة الأذهان
في السياق ذاته التقت “تشرين” المايسترو نزيه أسعد المدرس في المعهد العالي للموسيقا بدمشق وعضو المجلس المركزي لنقابة الفنانين، ليحدثنا بدوره عن وجهة نظره الموسيقية بما يخص ما يجري من تعويم للتفاهة:
كلنا يعلم أن ارتباط الإنسان بالموسيقا أزلي منذ عمق التاريخ، ابتدأ بصوت بسيط ، إيقاع موسيقا ، فغناء. لا تزال الموسيقا تزور المرء خلال حياته اليومية عبر المذياع التلفاز أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تاركة أثراً عميقاً بلبّه أكانت ذات مستوى عالٍ أم متدنٍ سلباً أو إيجاباً.
• كيف تفسر ظاهرة الانتشار الكثيف للأغنية الهابطة؟
إن ظاهرة الأغنية الهابطة قديمة متراكمة انتشرت في أمريكا وأوروبا لتنشر فقاعاتها في محطات التلفزة والمواقع العربية لاحقاً. لا شك أنها ذات غايات ومآرب تجارية بحته، لا يعنيها الارتقاء بالذائقة البشرية بقدر ما يهمها الربح المادي السريع. ما برحت تجارة الأسماع والتذوق الفني تجارة خطرة على جيل فتيّ بأكمله، مشوهة الصورة المترفة للعزف و الغناء مؤثرة بسلبية في كافة خطوط الحياة اليومية.
• كيف يمكن للمختصين الموسيقيين مواجهة هذا التلوث السمعي؟
نحن حريصون على إبعاد التلوث أو دعيني أسميه العفن السمعي عن مجتمعنا السوري الذي بات بأمس الحاجة لمزيد من الجدية في التعامل مع جميع مفاصل الثقافة الحالية. لا أشبه الأمر إلا بالإصغاء لبوق سيارة نشاز مزعج موتر للأعصاب، فما بالكِ لو أصغينا لمجموعة أبواق متراكمة تخدش الأسماع و الذائقة العامة. إننا مطالبون بالتوقف عن اجتذاب هذه الظواهر المتسببة بندوب في النفس البشرية، وردعها بشدة على أرض الميدان، عبر منع أمثال أولئك المطربين عن الوقوف على مسارحنا بأي شكل من الأشكال.