في فلسفة الصمت وموسيقاه!
تشرين- جواد ديوب:
يقال إن فرويد عالم النفس النمساوي كان “لا يحبُّ الهاتف مع أنه أحب الإصغاء”…هكذا يحلل الناقد رولان بارت شعورَ “فرويد” بذكاء ملفت فيقول: “ربما لأن شريط الهاتف يحمل معنىً هو ليس معنى الارتباط، إنما معنى المسافة: صوتٌ يتلاشى بقلقٍ تام، لأن صوت الآخر (المعشوق مثلاً) يتراءى لي من خلف قناع وكأنه يرحل مرتين، مرة بصوته ومرة بصمته، فكلانا نصمت معاً، إنه ازدحام فراغين هذا ما يقوله الهاتف.”
ازدحام فراغين!؟ يا إلهي، وكأن الروح تنسحق تحت ثقل الكثافة المتولدّة من هذين الفراغين الضاغطين، أو كأننا إذ نتعوّد على الصوت المتكرر الرتيب كتكّات الساعة، أو صوت مولّد الكهرباء الذي يطنّ كذبابة ضخمة، يصبح هذا الصوت أو هذه العادة نوعاً جديداً من الصمت لا ننتبه إليه إلا حين ينطفئ فجأة، وندرك كم كنا متبلّدي الإحساس بسببه، غارقين في هذيان حمّى الضجيج.
موسيقا الصمت!
لكن هل الصمت هو الضدّ للصوت؟ أم أنه جزءٌ مما يتألف منه الصوت كما الضوء نقاطٌ مضيئة وأخرى معتمة؟ وهذا بالضبط ما يجعله جميلاً ومريحاً حسب المبدأ الفلسفي المصاغ شعرياً في القصيدة اليتيمة للشاعر العباسي علي بن جَبَلة: (ضدّان لما استُجمِعا حَسُنا/ والضدُّ يُظهِر حُسْنَه الضدُّ)، أم هو أصلُ الكون الذي كان عماءً وغمراً وعتمةً، منه أتينا وإليه نعود؟
أفكّر بالخَرَس وعلاقته بالصمم، هل هو انعدام للصوت كعقوبةٍ من القَدَر أم هو صدى لصوت من نوع آخر أقلّ إيلاماً وخدشاً للطبيعة وموجودات الكون؟ فالأخرس لديه طاقات أهداه إياها الرب ليعبّر بها عما يريد بعينيه وجسده وروحه.
في ألمانيا، بلد العبقري بيتهوفن الذي تحول في نهاية حياته وبشكل تراجيدي إلى أصمّ بالكامل بعد أن هجرته أوروبا وهجرها هو إلى سماء صمته وحيداً كنسر، في ألمانيا وارثة بيتهوفن العظيم، يدرّبون الأطفال الصمّ على الجلوس بين عازفي الأوركسترا على الخشبة ليتحسسوا ذبذبات الموسيقا المنبعثة من الآلات بأنفاسهم وأجسادهم وقلوبهم وبصيرتهم، ثم ليرسموا ما شعروا به، فتكون النتيجة لوحات فنية مدهشة في اختلافها عمّا رسموه سابقاً، بل إن الألمان يقيمون ورشات عديدة يحضرها أناسٌ أصحّاء ليتعلموا لغة الإشارة وهم شبه صامتون، ليعرفوا كيف يحسّ الشخص الأصم وليستطيعوا مساعدته فيما لو كان واحداً من أفراد العائلة، أو طفلاً في مدرسة، أو شخصاً في شارع.
فانتازيا الصمت!
كما أنني لم أقرأ أبداً كاتباً تحدث أو وصف الصمت كما فعل الروائي غابرييل ماركيز في “مائة عام من العزلة” بدءاً من العنوان الذي يجعلنا نستشعر فيه صمتاً مخيفاً لكن جميلاً كصمت البيوت التي يتجوّل فيها الموتى كأنهم لم يموتوا أبداً، وصولاً إلى المقطع الذي ذهبت فيه مجموعة من صبايا القرية الخرافية (ماكوندو) للاستمتاع بتسلية جديدة في الدروب الرطبة والطويلة لبيّارات الموز، هناك حيث “يبدو أنه جيء بالصمت من مكان آخر، صمتٌ لم يُستخدم من قبل، ولهذا كان شديد البلادة في نقل الصوت، لأنه أحياناً لا يُفهم جيداً ما يقال على بعد نصف متر، ولكنه يبدو مفهوماً بوضوح في الجانب الآخر من المزرعة.”
“صمتٌ لم يستخدم من قبل” أيّ تعبير فانتازيّ مفاجئ مذهل وساحر كما هو كل تفصيل وكل كلمة من الرواية! جملةٌ وحده ماركيز قادرٌ على كتابتها لأنه يطحن هيل أفكاره ويجعلنا نستمتع برائحتها تعبق في صفحات كتابه الأعجوبة مائة عام من العزلة.
سعادة العزلة!
كنت أحياناً أبقى لمدة يومين كاملين بلا أي حديث مع أي أحد، بل بالحد الأدنى من الكلام، جملة في الصباح مع الخبّاز، وجملة في الليل مع صاحب الدكان: لو سمحت، علبة سجائر. وفقط! ورغم الوجع في جسدي المتصلّب فوق الطاولة وأنا أقرأ، والتيبّس في حنجرتي إلى حدٍّ يصبح فيه بلع الريق كابتلاع كسرات الزجاج، كنت في نهاية تلك الجلسة الطويلة أصل إلى حالة تصالح مع الذات، تقربني درجةً من درجات السعادة وفرح الكينونة، كالبوذيّ في خلوته، كالراهب في ديره، الواصل إلى قلب الله بالخشوع والخشونة وخشب الصليب.
ولأن للصمت حكمته الخاصة، لأنه دائريٌ كالزمن، والزمن نعرفه بأرواحنا وأجسادنا معاً، ها هو الصمت يتجلّى مرةً ثانية وثالثة ولانهائية معلناً عن نفسه في دقّات قلوبنا: حركةٌ فسكوتٌ فحركة، أو نبضةٌ فتوقّفٌ فنبضة… إلى أبد الآبدين، آمين.