أنس بديوي وحكاية النص الموازي وولادته من رحم إبداع النص الأم
راوية زاهر:
“قراءة النص الشعري وتحليله” للدكتور أنس بديوي الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، والذي يقع في أربعة أبحاث أساسية سنوزعها بالدراسة على أبواب الكتاب.. وتأتي أهمية أبحاث هذا الكتاب من غايتها في الوصول إلى اقتراح مشروع قراءة نصية بأدوات تحليلية تعتمد الإفادة المنهجية العلمية التي حاول النقد الأدبي النهوض عليها وذلك على غرار العلوم التطبيقية.. ولابد من الوقوف على دلالة تحديد المصطلحات التي شكلت الأساس النظري الجامع لأبحاث الكتاب وهي النص الشعري والقراءة والتحليل.. فالنص متن مضاف إليه ما هو خارج هذا المتن النصي من فضاء التدوين لتكوّن العتبات النصية من عناوين وإشارات مرجعية وتوطئة ومقدمة وطريقة تشكيل طباعي. أما القراءة فهي الوقوف على معنى النص أو معايشته حالة وفكراً.. ومن أبرز أنواع القراء الذين أشارت إليهم نظرية القراءة المعاصرة هم : القارئ النموذجي والخبير والمقصود والضمني. أما التحليل فهو خلاصة منهجية تردّ النص الشعري إلى عناصره المكونة له، وتبين العلاقات الكائنة بين تلك العناصر التي تم تحليلها.
وبدايةً مع البحث الأول: شعريتان في ميزان التحليل النصي الواحد.. النص الأوّل: قصيدة محمد مهدي الجواهري (أجب أيها القلب) والنص الثاني: (شتاء ريتا).. ومأخذنا على الباحث هو إحالتنا إلى مراجع ودواوين للبحث عن المادة التحليلية إذ كان حرياّ به نقل القصيدتين بالتفصيل تسهيلاً لعملية التذوق وسهولة الوصول القريب إلى المعنى القريب والبعيد والنص الموازي للنص المدروس.. ونقف مع المكوّن الفكري لقصيدة الجواهري (أجب أيها القلب)، حيث يقدم النص رؤية الشاعر للحياة في بعض المواقف التي تعترض الإنسان بعد تمهيد للفكرة ببواعث نفسية وخلجات يرسلها القلب ليكون صادراً عن فكر وشعور. وقد وصل الشاعر إلى انكسار نفسي ظاناً نفسه قد أصيب بعقم قول القصيد بعد وفاة زوجه” أم فرات”.
وقد فصّل الباحث في التشكيل اللغوي للقصيدة متمثلة بالعتبات النصية والنص الأصلي مع الوقوف على عتبة العنوان:
“أجب أيها القلب الذي لست ناطقاً
إذا لم أشاوره ولست بسامع”.
ويعكس فيه القلب توصيفاً لعلاقة هذا القلب، ويبدو من دون مركزية ذات الشاعر عضلة لا قيمة لها، متحدثاً عن لغة الإنشاء والإخبار والنجاء وشدة الانفعال العاطفي.. إضافة إلى عتبة التقديم والإشارات المرجعية.. وقد غاص ضمن بحثه في العناصر اللغوية ودلالاتها من جموع ودلالات صياغية للأفعال الماضية ودلالتها. وورود الأسماء وتأثيرها في الزمن عضوياً. ولا نغفل العناصر الإيقاعية من وزن وحرف روي وقافية ودلالاتها، واستخدامه للتصريع وعناصر إيقاعية أخرى كالتكرار والإضافة والتوازي والتقسيم، وميله إلى العناصر التصويرية وتشكيلها الفني من استعارات وتخييل وكنايات (يجري سحرها.. ياقلب لست ناطقاً. أرعبن أطيافي – ريع منك اللب).. وقد لوحظ أن هناك سرداً وصفياً قوامه براعة النظم، ولعلّ طغيان الاندفاع العاطفي كان وراء قلة العناصر التصويرية.. فكنا أمام نص ذي بعد معنوي ظاهري لكنه عميق التأثير يؤدي غرض التوصيل على نحو مباشر، وهذه ميزة عند الجواهري، تعود إلى غنى التجربة والثروة اللفظية وتدفق المعاني.
أما المكون الفكري لقصيدة “شتاء ريتا” فيقوم على بنيتين: عميقة وسطحية متجسدة وظيفتها الفنية في علاقات حضور تقدم سطحاً مباشراً غير مراد وتتجسد وظيفتها الفنية والجمالية باستحضار بنية عميقة تمثل علاقات غياب تسهم في الوصول إلى النص الغائب، وهو المقصود على صعيد تبيان المكوّن الفكري وتحديد مقولاته.. إذ تصف هذه البنية السطحية علاقة بين رجل يحيل على الذات الشاعرة، وامرأة تحيل على أثر الأنوثة في حياة ذلك الرجل.. وأول ماتقدمه لنا الزمن النفسي واستدعاء كل ذاكرة لمائها وطينها ورغبة الغياب والبعد والتشظي كأيديولوجية فكرية عدوانية صهيونية رفضاً عاطفياً وفكرياً وإنسانياً. ودلالات الشتاء النفسية في العتبة النصية للعنوان.. أما الخاتمة فلعلها ترسخ فكرة حجب الحقيقة لتقرير واقع راهن
واستفاض الشاعر باستخدام الرمز والحقول الدلالية المتنوعة كالحقل الجنسي:(سريري.. لبست سواي) وحقل الأنوثة (ريتا ترتب، تربط شعرها ذيل حصان)
وحقل الذكورة:(أنا، فارس سيدها) وحقل الطبيعة:( ليل، الأزهار، قمر، النخيل) وحقل الأشياء:( غرفة.. شباك)، وحقل العناصر (ذاكرة الإشارة.. العبارة)، إضافة إلى إدخال النص في ذاكرة المعطى الثقافي، وتجاوز النص عناصره التصويرية إلى الأشكال المجازية بإيقاعية البحر الكامل، واستخدام أساليب نحوية متعددة.
أما البحث الثاني فكان عن العلاقة التي رسمها وجيه البارودي بين الذاكرة الاجتماعية والنص الشعري.
فقارئ وجيه البارودي يصنف ما يقرأ في سياق النص الشعري التصويري، إذ يعكس تاريخاً جسّده بشعره وملامح واضحة لمجتمع عاش علاقاته وبيئته امتدت في فكره واشتدت في وجدانه فكان الصوت والصدى يعكسان ذلك شعراً وعلى حاملَيه الفكري والتصويري.
وكان النص ذاكرة اجتماعية تتماهى لغة وتتسع محتوى في التكوين والبنية والتشكيل الفني، فقد عرف من خلال ذاكرته الاجتماعية بعدائه للمدينة وهجائه لها والتي يراها بعيدة عن التقدم والتطور يسودها التخلف والجهل، محاولاً خوض معركة فكرية في سبيل تحريرها ونسائها من الجهل والتخلف:
وبنية الذاكرة لديه مكونة من عتبات النص البصريه والجمالية والترويجية والدلالية، كما مال إلى استخدام المثل الشعبي (دود الخل منه وفيه)، (أول الرقص حنجلة).
وفي بحثنا الثالث: مع صور الغرب في شعر نزار قباني حيث تأتي أهمية هذا البحث من أهمية دراسة “الصورلوجيا” في الدراسات العربية.. وقد برز هذا البحث في صورة الغرب الحضاري وذلك باستحضار عظمة الحب التي حولته إلى إنسان متحضر بعد أن كان بدويّاً ثم علمته اللغة الواسعة الغنية، لغة الماء الأزرق (أشهد أن لا امرأة إلا أنت).. في الغرب رأى نزار قباني أنّ الشاعر حرٌّ كما قال في القصيدة والجغرافية:
“في بلاد الغرب، يا سيدتي
يولد الشاعر حراً
مثلما الأسماك في عرض البحار”.
وقد رفض قباني حالة القهر الثقافي فقاده ذلك إلى المقارنة السلبية بالحرية الثقافية مع العرب. ونزار يرفض الموضوعية المطلقة في الأدب شاعراً وناقداً.
وللمرأة الغربية صورتها في شعر نزار قباني، وما ذلك إلا لشغفه بارتياد ما خفي من الجسد الأنثوي فكان حافزاً على هذا الظهور الجمالي الأنثوي فتغنى بالمرأة السويدية والفرنسية والإسبانية وغيرها.. وقد ربط نزار قباني بين صورة المرأة والمدينة حد التماهي.
(إن صور المدينة الغربية تتقاطع كثيراً مع صورة المرأة، حتى إن المدينة الغربية تصبح المرأة وتتناغم معها) . وأبرز أيضاً نظرته تجاه المستعمر الغربي وخاصة في الجزائر وممارساته الترهيبية بحق المناضلين وخاصة جميلة بوحيرد:
“مقصلة تنصب
يلهون بأنثى دون إزار
وجميلة بين بنادقهم
عصفور وسط الأمطار.”.
ونهاية.. كان بحث الكتاب الأخير: قراءة في المجموعة الشعرية (أقرب من الأصدقاء…. أبعد من الخصوم) للشاعر راتب سكر.. نطارد بريقها من عتبة العنوان بوصفه نصاً موازياً لا يغيب عن سياق المجموعة كلها
تتجلى في جوانب أساسية، ومجموعة من الدلالات المركزية للنص، ويصبح الشروع بتحليل العنوان أساسيا عندما يتعلق الأمر باعتباره عنصراً بنيوياً يقوم بوظيفة جمالية مع النص أو في مواجهته أحياناً.. لنجد أنفسنا في رحاب نص تعددي يحقق تعدد المعنى
(نمنمات على أسوار باكو):
“باكو
ترتب للنسيم صباحها
ثملاً يعابثها
مطلاً من نوافذها
على أرض
يؤرجحها سرير النوم
في حضن المساء”.
إنه النص الذي تعيشه وتعاينه، بوصفك متلقياً مبدعاً له، ترى فيه ما لا يُرى إلا من موقع القارئ المتفاعل الذي استفزت قواه الرؤيوية شاعرية لا تقنع بلذة الإنشاد والترنم فقط، بل تحتاج إلى اختراق معرفي يسبر أغوارها.