في “كلمات الجمال” للشاعر سعد الدين كليب
نضال بشارة:
كأن الشاعر والناقد سعد الدين كليب وهو الباحث في علم الجمال، وفي مدوّنته أكثر من خمسة كتب فيه، يُقِرُّ أن الجمال يبدأ بالشعر الذي هو وحده المثال وبه يُختزل أو يُفتتح الكلام والأسئلة. وإلّا ما معنى أن يأتي كتابه ” كلمات الجمال ” الذي صدر عن منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب والذي ضم اثنتي عشرة مقالة وبحث عن الجمال، مشغولة بروحية الباحث عن الجمال والمستمتع به. يستهلها أو يقدّم لها ببيت من الشعر؟ ولم يأتِ هذا الاستهلال بالشعر أو التحيّز له مجانياً، فكليب بدأ حياته الأدبية بالشعر ولا يزال يبدعه، قبل أن يصبح ناقداً أكاديمياً مميزاً في علم الجمال، أي هو تحيّز الخبير لا تحيّز من يريد أن يتزيّا بثوب لا يعرف نسيجه وخيوطه وألوانه وزركشاته وتصاميمه. يُهدي د. كليب كتابه لأربعة من الأدباء الراحلين (موريس سنكري، حيان السمّان، يوسف إسماعيل، وفيق سليطين) كان يتمنى لو أنهم قرؤوا كتابه، وهذا الإهداء هو المقالة الرابعة عشرة التي أضاء لنا فيها على جمال المحبة والوفاء لأصدقاء له على المستويين الشخصي والأدبي.
أُنْس المطمئن
جاءت مقالات الكتاب، بلغة بعيدة عن التعقيد والتجريد فيما تناولته من مسائل وقضايا جمالية تحسب نفسك أنك تعرف بعضها، أو بعضها الآخر من هواجسك الدائمة ولم تستوفِ التأمل والتفكير فيها، فتتنبّه كأنك لم تعرفها من قبل فتحظى بلذة الدهشة من الإضاءة التي ساهم بها كليب وعمّق لنا اهتمامنا بها، من وجهة نظر علم الجمال، سعياً لتقريب هذا العلم للقارئ، من دون أن يدّعي أنه استوفى الحديث عليها، وإنما الهدف منها الإضاءة والإثارة، بحسب تعبيره. فوفق منهجية الكتاب كان لا بدّ أن تكون المقالة الأولى بعنوان ” كلمات في الكلمات” وشعر نزار قباني ( يُسمعني حين يراقصني/ كلماتٍ ليست كالكلمات) لأن الكلمات، وفق قوله، هي الثالث بيننا ونحن أمام الجمال والجلال في الفن والطبيعة، أو أمام اللوحة والتمثال والأغنية والقصيدة وبقية أبناء الفنّ وبناته، وكذا أمام السهل والجبل والبحر والنهر حتى آخر ذُرّية الطبيعة الحيّة والصامتة، حيث الجمال والجلال، بشتى الأشكال والأنواع، وبشتى الألوان والحجوم، مما نقف أمامه بدهشة المستمتع ورهبة المتعجّب وأُنْس المطمئن، نقف وحدنا، أو هكذا يخيّل إلينا، كي نتدرج في المتعة حتى أقصاها دون أن نُشرِك بها أحداً. فالمرشد الخفيّ، كما يقول في ” وحدتنا” الجمالية هو الكلمات، أو اللغة، فكم من كلمة شغفنا بها وانتعشنا باللطافة تسيل من حروفها، فرُحْنا نلهج بها في السرّ والعلن، وما ندري أهي حقاً كلمة أم نغمٌ ينثال فينا بشراً سويّاً، وكم أرقصتنا كلمة، وآنستنا كلمة، وألهمتنا كلمة، وكم دوّختنا الكلمات!
لا أجوبة نهائية
ويتناول د. كليب في المقال الثاني ” المتعة والأسئلة” ويقدّم لها ببيت الشعر التالي (إنّي امرؤٌ مولَعٌ بالحُسْنِ أتبعُه/ وليسَ لي فيهِ إلا لَذّةُ النّظرِ) لعمر بن أبي ربيعة. يقول: نفثةُ شاعرٍ صارت درساً جمالياً، وصارت مسألة فلسفية وعلمية وثقافية، لا يجوز لمن يتصدى للتفكير في الفن والجمال أو الذوق أو المتعة أو الحواس إلّا أن يتوقف عندها بالبحث والتحليل، ثم الإجابة عن أسئلة من مثل: ما طبيعة اللذة أو المتعة الجمالية، وما علاقتها بما هو عضوي، أو بما هو جنسي، أو بما هو اجتماعي ونفسي، وكذلك بما هو فكري وثقافي وأيديولوجي؟ ويرمي أسئلة أخرى: هل بوسع اللذة أو المتعة الجمالية وحدها أن تفسّر لنا ذلك الولع الإنساني، عبر التاريخ، باستقبال الأشياء الجميلة بمستوياتها كلها، ومن ثم رعايتها وابتكارها واعتبارها كنوزاً قومية وإنسانية، وهل يمكننا أن نتحدث عن تلك المتعة وكأنها ذات طبيعة واحدة لم تتغير عبر التاريخ الإنساني. وأسئلة أخرى مفتوحة جميعاً على مصراعيها، وهي أصلاً لا تفترض أجوبة نهائية لا أجوبة بعدها. لأن لا كلمة نهائية في الجماليات، وما من أحد يستطيع أن يدّعيها أصلاً. وتتالى المقالات بالعناوين التالية: عدوى الجمال، سرير الأبدية، أحمر الشفاه، أسماء القبح…أسماء الجمال، أطياف الجمال، مجازات الجمال والجلال، فصل الجمال، فانتازيا القبح، الإشباع الجمالي، سلطة الشكل، كلمات نافلة.
عدوى الجمال
فإن كنا سنصدّق الشاعر ” أبو نواس” في قوله (يزيدُكَ وجهُه حسْناً / إذا ما زدتَه نظراً) عن عدوى الجمال التي تزيدنا حسناً وبهاءً كلما عايشناه، أو إِنَّ علينا تصديق تلك الأسطورة التي تقول إنّ الجمال قد يكون لعنة على أصحابه وعشاقه معاً، فعلينا أن نقرأ مقالة “عدوى الجمال” ومنها سنعرف أيضاً لماذا اقتضت حكمة الشعوب أن تصنع ملكات للجمال أو مُثلاً عليا. وإن كنت عزيزي القارئ ترغب في أن تعرف هل يمكن تثبيت الجمال وتأبيده، قبل أن يأكله الزمن، ولماذا الحديقة أجمل من الغابة، فلا بد من أن تقرأ مقالة “سرير الأبدية”. وسيخبرنا د.
كليب ما كتبه تحت عنوان “سلطة الشكل ” أن ليس هنالك سحر أو دين دونما شكل فني، أو دونما صورة جمالية في الفعل أو القول. ورأى أيضاً أن النقوش والزخارف والمدافن والمعابد الضاربة في عمق التاريخ قد تكون دالة في ذاتها على ذلك. وهو ما يعني انتفاء الأسبقية الزمنية لأي منهما على الآخر، ليتأكد التزامن والتلازم بينهما، ولكن بينما يتحدد هذا بالتفكير والاعتقاد، يتحدد ذاك بالشكل والإنجاز. وسيخبرنا فيها أيضاً عن الفوارق بين الشعورين الجمالي والديني، حيث ينتهي الأول بالمتعة وينتهي الثاني بالخشوع، ورأى في خلاصتها أن الفنون بأنواعها كانت هي الحاضن الجمالي لمجمل الرسائل الدينية، بدءاً بفن الكلمة وانتهاءً بفن العمارة. فلا دين إلّا وكان الجمال أصلاً فيه كما أنه لا دين إلّا وكان الفن حاضنه البديع. أخيراً، يعلّمنا كتاب د. سعد الدين كليب التنبّه للجمال وأسئلته، وبأي مستوى كانت ثقافتنا، فلا بدّ أن نُغرم بكتاب كهذا، ونجزم أن بعضنا سيعيد قراءته بوافر المتعة.