«طفلٌ ومدينة ونشيد»… مشاهد مصورة لـ«أميمة إبراهيم»

«خلفَ البابِ الموصدِ؛
حكاياتٌ لمّا تُقلْ،
وأناشيدُ سريّةُ الهوى
لعاشقينِ زعمَ الواشونَ؛
أنَّ الشيطانَ ثالثهما..»
«طفلٌ ومدينة ونشيد»، كأن الشاعرة أميمة إبراهيم تُريدُ إخبارنا بما اختزلته بعنوان مجموعتها الشعرية الصادرة عن اتحاد الكتّاب العرب.. ذلك أنها تذهب بعيداً في تنويعاتها الشعرية في حقولِ هذه المساحات الثلاث «طفلٌ ومدينة ونشيد»، فأميمة إبراهيم تكاد تعمل «فلاش باك» بعد أن توقد في أدراج ذاكرتها نار الحنين، لتُعيد وبما يُشبه «الخطف خلفاً» ذكرى الطفولة، ومعها مشاهد مدينة، لتسرد كل تلك المشاهد الصورية بنشيدٍ عذب ومفعم بالرقة والشعرية.
أما الطفلة فهي تلك البنت التي كانت على تلقائيتها في “زواريب” حمص، أو دمشق، فكلّ شوارع المدن السورية واحدة من الحميمية والأنس والحب قبل أن تهبُّ عليها رياح الشمال والجنوب دفعةً واحدة.. وكأن أميمة إبراهيم، وببراءة طفلة ثمة من أوقع «دميتها» عمداً في الوحل، لتلتقطها بخوفٍ ووجع الفقد، وتُنظفها بلا هوادة من كلِّ ما علق بها من تلوث وأذى، نافضةً من ذهنها كل هذا الخراب. نصوص، هي ترانيمُ قلب في زمن تكاثرت فيه الأوجاع، وكذلك هي رسالة حبٍّ في زمن القهر.
ففي أول بوحها، أو كما تعنون قصيدتها الأولى «من مقام البوح» تحملُ الشاعرة صرّة طفولتها معها عبر دروب ومتاهات، ليس طفولتها وحسب، بل حتى شوارع مدينتها – حمص- القديمة بكل تلك الطيوب المنبعثة من الشبابيك، وحكايات جارات يعبقن بالحب. مشهد طفلة كأنها تتمسك بذيل فستان تلك المساحات البعيدة، لتُعيد بها إلى زمن الحب، وذلك في بحثها عن «كمشة» ضوء وأوكسجين في جهة الخراب.
«طفلةٌ أنا
والطريقُ بقايا من حلوى وأراجيح،
ومدينتي تغفو في الظهيرة
تستفيقُ على دغدغات الماء..
(…)
طفلةٌ أنا
والعيدُ فستانٌ مُزركشٌ بالأماني،
ودربٌ لديكِ الجنِّ
والميماس..
وأزقةٌ تنشرُ طعمَ المحلبِ،
وعبقَ الشُّمرةِ
في أقراصٍ عجنتها الجاراتُ بالودِّ…»
هي طفلةٌ – شاعرة تعرفُ انتماءها جيداً، وتعي جذورها كما يليق بشجرة الشعر أن تُورق، وتخضر، فهي ابنة هذه الأرض/أرضعتها الطبيعةُ سلافةَ مائها فاخضرَّ عشبُ القلب ونما.
ولأنّ الأمر يأتي بهذه الرقة والعذوبة لتلك المشاهد العابقة بالمحبة والطهر قبل أن تتسمم بنار الحرب، فقد جاءت لغة النصوص بسيطة تنسجُ حروفها من قطن الأرياف، والبرية الأولى الصافية، وتنسلُّ تماماً كجري السواقي في سهوب الذاكرة لا تقعّر فيها ولا ثمة متاهات لبرودة القواميس وأحفوراتها «الجذلى».. لغة دافئة استطاعت الشاعرة خلالها أن «تُزيح» مفرداتها من سياقات المُتعارف عليه، والتي اعتادتها طويلاً لتُشكّل منها جمالياتها، أو لعبتها اللغوية كمثل (عصافيرَ شوقٍ تنقرُ تين الغواية حرفاً حرفاً ثمّ تطيرُ تطيرُ)، أو (عبثاً أحاولُ فكَّ العقدة، أمراسٌ من قنّب الروح، جُدلت وتشابكت في عناق)، أو مثل (تلك التي زرعت في صحنٍ صغيرٍ بذور قمحِ الرغبة، وسقيتها نبيذاً أبيض فكبرت مثل ابنة الحكاية في يومٍ وليلة..)، معتمدةً على خصب المُفردة التي تبني من خلالها عمارتها الشعرية، مُفردات هي مخزون من الألوان والموسيقا والجمال، هنا حيث المُفردة تُشكل النص الموازي من خلال طاقتها وإيحائها: غيم، مطر، شوق، حكايات.
وكمعظم الشاعرات اللواتي أصدرن مجموعاتهنّ الشعرية خلال العقد الأخير من هذه السنين، فقد كان صدى الحرب موجعاً ومُخيفاً كغولٍ سرق كلَّ الأبجديات، كذلك مجموعة «طفل ومدينة ونشيد»، كان إيقاعُ الحرب موجعاً كضبابٍ، أو كمن حاصرهُ الضباب من جهاته الست حتى تاه وأضاع الجهات.
«رأيتُ فيما يرى النّائمُ
حجارةً من السماء
تُزلزلُ الزّرعَ
والدربَ
والأشياء،
ورأيتُ قصائدي مرميّةً في العراء؛
قلبي كان عنقودَ ملحٍ
يتدلى..»

تأتي نصوص أميمة إبراهيم في بعض المواضع تماماً كـ«أبحاث»، تُعالجُ من خلال نصها الشعري بحثاً حول مفهوم، أو مُصطلح، أو همّ، أو قضية.. وتبني على تلك «الأفكار» متوالياتها الشعرية الشارحة والباحثة والمُعرِفة مثل مفهوم: الغيم، الفزاعة، دمشق القديمة، الأم، اليقين، والحب.. ومن وجهة نظر شخصية بحتة أجد هذه النصوص أنها كانت الأجمل بين كل تنويعات القصيدة التي دونتّها في مجموعتها الشعرية، والحقيقة أن الشاعرة دوّنت الكثير من التنويعات ولاسيما على صعيد الشكل، فيما بقيت جميعها ضمن المناخات نفسها من التأمل، والفكر، في البنية والمحتوى.. ومن المتواليات إلى الومضات، وما بينها من قصائد لا تتعدى الصفحتين؛ تذهبُ إبراهيم بنصها صوب الأدب الوجيز، ذلك الأدب الذي أوصى به أرنست همنغواي يوماً – وهو صاحب الدعوة لكتابة قصص قصيرة لا تتجاوز الـ«25» كلمة – “ربما على الكتّاب أن يكتبوا واقفين، فإنهم حينها سيتقنون كتابة الجمل القصيرة..”، ولأن أميمة إبراهيم تكتبُ جملها وهي واقفة على مشاهد الطفولة البعيدة؛ فكان الحبُّ يتلون لديها بتعريفات كثيرة، وذلك لإزالة اللبس والإشكال الذي يُصيب الحب في مقتل
الخيبات والخذلان فـ:
الحبُّ يدانِ ممتلئتان بالسكاكر الملونة،
تلك التي بطعمِ الكرز والتوت،
(…)
الحبُّ
ألا تدع امرأةً
تنتظركَ
على قارعة الوقت
الحبُّ
أن تسفحَ ماء لهفتكَ
في بهو كبريائها؛
فينبتُ قمحكَ
في سهولها..”

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار