على أعتاب ربيع الممانعة …انتفاضة ثالثة بشروط متقدّمة

يكتب ادريس هاني لـ تشرين حول الانتفاضية الفلسطينية التي تدور رحاها اليوم في الأراضي الفلسطينية ، حيث يسطر الشعب الفلسطيني دروساً ، تسقط الرهانات وتبشر بربيع مقاوم ويقول :” لقد تجاوزت إرادة الشعب الفلسطيني كل التسويات والوساطات، ولا شيء يمكن أن يخترق الذكاء الطبيعي لشعب قرّر أن يخوض معركة التحرر الوطني..”
ويضيف :” الطفل العربي المقدسي المنتفض ليس فقط هو أمل لتاريخ مجروح وجغرافيا مستباحة، بل هو أيضاً يوجد في قلب نظرية قلب الطاولة على التوازنات المغشوشة”.

             ………………………

ما كنا نسميه بربيع الممانعة،لاحت تباشيره. فلا ربيع عربي لا يجعل من القضية الفلسطينية محور اهتمامه. سقط ربيع التسويات، ربيع تهميش القضية الفلسطينية . مرت عشر سنوات، كي ندرك أنّ ربيعا مغشوشا قد جلب الويلات للقضية الفلسطينية، وبأنّ ربيع الممانعة هو من سيمسك بزمام المبادرة. يومها كان صيصان التحليل البزّاقي يسخرون من استشرافنا لبؤس ذلك الربيع اللّقيط، الذي بنى مجده على رغبة برنار هنري ليفي الذي كان ضامنا لصهينة المقاصد الكبرى لربيع، كان هدفه تدمير آخر معاقل الصمود وتحويل الكيانات إلى رماد تمهيدا لشرق مقطّع الأوصال، قابل لكل الصفقات.
كما توقعنا مرارا، فإنّه ما أن يجدّ الجدّ حتى تتهاوى كل أشكال الخطاب المغلوط، وفي مقدّمته التعليلات العنصرية والطائفية، حين لا يعلو صوت فوق صوت البندقية في مسرح الكفاح الوطني، يختفي كل عرير.
لم يفرح النتن طويلا “بإنجازاته”. لقد انتُزعت منه المبادرة، وعادت الأمور إلى مربعها الأوّل، أنّ ثمة شعب محتلّ، وأنّ لا سبيل لتكرار التسويات البالية.
هل كانت قيادة الاحتلال تعتقد أنّها ستخالف منطق الأشياء وقوانين التاريخ، في عملية محق إرادة الكفاح الوطني؟ لم أر أبلد من هذا الكيان، بل إنّ القوة المفرطة التي اعتمدها ولا زال في إخضاع الشعب الفلسطيني لهي أكبر دليل على غبائه التاريخي.
ظنّ الاحتلال على أنغام أحمق البيت الأبيض بأنّه سيغير التاريخ عن طريق صفقة القرن، وكأنّ إرادة شعب يتطلع للتحرر هي قضية مفاوضات فضولية بين أطراف خارجية. وكان قد ذهب بعيدا في التحرش بقواعد الاشتباك، وبدأ يعبث مع مراكز المقاومة، معتقدا أنّه سيستعيد هيبة الردع وتأديب المقاومة عبر البطش. لكن ما يجري اليوم هو أنّ المقاومة قبلت بالمضي إلى أبعد مدى في اللعبة، لقد جرّ الاحتلال على نفسه ضربة كان يظن أنه سينجو منها، اليوم لم يعد هناك ما يمنع من بلوغ أعماق فلسطين المحتلة، لم تعد تل أبيب بمنأى عن الاستهداف. تحرشت صواريخ المقاومة بأكثر المناطق حساسية في الأراضي المحتلة، بتل أبيب، بديمونا، بمطار بن غريون، هذا يعني أنّ الإحتلال يدفع ثمن مغامراته الغبية.
يتطور الفعل المقاوم باتجاه عمليات أكثر جدية في استهداف الأعماق الاستراتيجية للعدوّ. وهذا تطور لم يعد بالإمكان التراجع عنه، لأنّ المقاومة تدرك بأنّ التقدم في خرق قواعد الاشتباك هو من مهام المقاومة أيضا، وهي غير معنية بإذن من العدو في تطوير برامجها. ويمكننا حصر أهم التطورات في مسار المقاومة اليوم في النقاط الآتية:
– واكبت المقاومة سياسة الاحتلال التصعيدية، بتصعيد الفعل المقاوم، وقد بات يقترب من المواجهة الشّاملة.
– أعقبت صفقة القرن تدابير مقاومة انتقلت إلى حدود الأراضي المحتلة التي تحولت إلى مشاتل صاروخية تتهدد أعماق العدوّ.
– استطاعت المقاومة أن تخترق القبة الحديدية التي جُعلت بديلا عن الردع الكلاسيكي، لقد تعرّت أرض العدو واحتلت سماؤه.
– فقد العدو المبادرة في الحرب، وحاول تعويضها بمبادرات سياسية ماتت في مهدها، اليوم المقاومة هي التي انتزعت المبادرة.
– استطاعت المقاومة أن تنزع من العدو مكسب تأديب المقاومة عند كل ردّة فعل، اليوم باتت المقاومة هي من يؤدّب الكيان على تجاوزاته.
– انتهت صرعة الربيع العربي المغشوش وحلّ “ربيع الممانعة” الذي يصنع في قلب فلسطين.
ثمّة ثلاث شبهات في هذه المعركة:
– هل بالفعل صواريخ المقاومة تفسد الانتفاضة المقدسية؟
– هل سيكون لهذا التصعيد تبعات، بمعنى آخر، هل سيرد الاحتلال بحرب عسكرية شاملة؟
– ما موقف العرب في جامعتهم العربية؟ وما موقف المسلمين في مؤتمرهم الإسلامي؟

للإجابة عن السؤال الأوّل، فإنّ هذا التقييم لصواريخ المقاومة خرج من تحت جبّة أصدقاء الاحتلال. وهم أنفسهم من اعتبر يوما أنّ سلاح الإرهاب في سوريا هو لفكّ الحصار عن ثورة نقلتها أجهزة الثريّا. يتم تعميم هذا الإشكال، وهو غير معني بأداء المقاومة، لأنّه لا زال يعتقد بعودة تاريخ التسويات. هذا فضلا عن أنّ الأهالي في القدس هللوا وزغردوا لصواريخ المقاومة. الذين يستشكلون على هذا التشبيك الاستراتيجي بين الانتفاضة والفعل المقاوم، يزعجهم تطور أداء المقاومة. ففي تفكيك هذا الخطاب، متنا وماتنا ، نقف على حِران قرائي شامت أو متهيّب، فهناك من يرى أنّ المقاومة تخطّئ كل حساباتهم الخاطئة. الذين قدموا أحكام قيمة على صواريخ المقاومة، هم ليسوا لا مقاومين ولا منتفضين، هم فقط متقوّلين أو ناقلي تقوّل. لأنّ السؤال الأكثر جدّية هنا: ما هي فوائد هذا التشبيك وما هي أضراره التي تنقلها تلك التّقولات؟
عند توقع الأضرار، يتحدثون عن أنّ انتفاضة المقدسيين من شأنها أن تعري عن جرائم الاحتلال أمام الرأي العام العالمي. وكأنّ الرأي العام العالمي لم يتساءل عن خلفية تلك الصواريخ. وكأنّ عشرات السنين من الانتفاض المجرد كافية لفكّ هذا الاستفراد بشعب يرزح تحت احتلال نازي يستعمل القوة المفرطة وينسج تحالفاته الدولية ويهيمن على الرأي العام الدولي عبر التحكم في شبكات الميديا وجماعات الضّغط لتصفية القضية الفلسطينية. يتجاهل أولئك أنّ أهم إنجاز يتحقق هنا، وهو أنّ تحالف الانتفاضة مع صواريخ المقاومة من شأنه تحقيق الآتي:
– فكّ الحصار عن المقدسيين، ووضع المستوطنين تحت طائلة الاستهداف.
– إنّ التحام الانتفاضة مع المقاومة هو الرد الطبيعي لالتئام الاحتلال مع المستوطنين
– ستضفي الانتفاضة شرعية تاريخية على المقاومة، باعتبارها تعكس إرادة شعب مكافح.
– عجلت صواريخ المقاومة بحشر الاحتلال في مطلب تخفيض التوتر بعد أن كان يراهن على إرهاب الأهالي عبر استعمال القوة المفرطة.
– لفتت صواريخ المقاومة الرأي العام الدولي لما يجري في مدينة القدس وحاراتها كباب العمود.
ولا شكّ أنّ كل نوبة من انتفاضات القدس تحمل معها مكاسب مختلفة عن سابقتها. وفي الانتفاضة الثالثة، كان لا بدّ من أن تستحضر كل هذه المكتسبات، وكان متوقعا أن تلتئم مع أجندة المقاومة وخططها الجديدة. إنّ محاولة الفصل بين الانتفاضة والمقاومة ، هي رغبة الاحتلال.
وللاجابة عن السؤال الثاني، فإنّنا نتوقّع كل شيء من الاحتلال للامساك بمكتسباته المتآكلة تحت تصعيد المقاومة. فلقد قام الاحتلال باستهداف رموز المقاومة ومواقعها طيلة الشهور الماضية، ولم يعد له من رادع، حتى ظنّ وظنّ معه المرجفون بأنّ يده باتت مبسوطة، وضرباته لا توفّر موقعا من مواقع المقاومة. لكن الاحتلال حتى في ضرباته تلك، يدرك أنّ المقاومة لم تعد ملزمة بقواعد الاشتباك، بل من شأن مواجهة طويلة أن تقوض كل مكتسباته المتآكلة تلك، وهو في حاجة أن يحوّل تلك الصفقات الهشّة إلى انتصارات. إنّ حربا شاملة أو ضربات مباشرة كتلك التي حدثت في لبنان أو في غزة، ستكون لها تبعات خطيرة، فالمقاومة ستتطور في أدائها وستوسع من بنك أهدافها، وكان قصف محيط ديمونا هو رسالة ذكية تذكر الاحتلال بما ينتظره في حال باشر بعدوان شامل. اليوم سيكون الاحتلال مستهدفا من مشاتل الصواريخ التي ستنهال عليه. فتح الاحتلال على فوهات بركان عديدة، فلقد انتهى عصر الاستفراد حتى بالمقاومة الفلسطينية. فالمعركة تتطور بشكل يتجه بها نحو التحرير الشامل، والمنعطف التاريخي الذي تدرك المقاومة بأنه يوم آت آت آآآآت..
نعم، ما يمكن أن يحمله تهديد الاحتلال بردة فعل، هو عادة تهديد ينطق به فضوليون لا زالوا يعيشون على قواعد اشتباك عصر الهزائم، والاستهتار التاريخي للمحميين ضدّ المقاومين، أجل، ما يمكن أن يحمله هذا التهديد هو الآتي:
– سيدخل الاحتلال في مغامرة ردة الفعل بقبة حديدية تمّ تحييدها في المعارك القادمة.
– سيدخل الاحتلال في مغامرة يدرك أنّها ستفتح المدن الرئيسية وكذا المواقع الاستراتيجية لاحتمالات حارقة.
– سيدخل الاحتلال في مغامرة مع عناقيد المقاومة، أي تناسل الفعل المقاوم من مشاتل صاروخية تحيط بالكيان.
– سيدخل الاحتلال في مغامرة عنف لا يمكن أن ينهيه، بل سيعري على نقاط ضعف جديدة، عن مثال للميركافا ، عن عطلة طويلة الأمد وشلّ الاقتصاد والسفر، مثل هذه الحرب لا يمكن إيقافها إلاّ بالنووي أو تفكيك الآبرتهايد الصهيوني.
– سيدخل الاحتلال في مغامرة في سياق دولي منهمك في مقارعة الجائحة، وفي سياق تحولات جيوسياسية كبرى، وفي سياق انتفاض شعب الاحتلال على نتنياهو، وفي سياق رغبة دولية لإنقاذ المفاوضات النووية مع طهران.

أما عن السؤال الثالث، فإنّ أي تصعيد سيشكّل أزمة، إن لم تكن شاملة ولكن جزئية في الموقف العربي الرسمي. إن انتفاضة القدس والتصعيد الذي حماها ومنحها زخما أقوى من شأنه أن يهزّ بنية الصفقات، وهو ما يؤكد أنّ الاحتلال فاقد للرشد حتى في تعاقدته. إنّه لا يفي بالمعاهدات، ليس لأنّه كيان فاقد للمصداقية وينطوي على عقيدة عنصرية ساخرة من مبدأ السلام، وهو ما فعله طيلة سنوات من الاحتلال، في مفارقة باتت تخدش حتى في النظام الدولي: كيف يصبح الاحتلال مصدرا للسلام الدولي والإقليمي؟ إنما لا يفي بالمعاهدات، لأنه كيان هشّ، ولا تفعل القوة المفرطة إلاّ التأكيد على تلك الهشاشة. من شأن صمود المقدسيين والمقاومة الفلسطينية تحديدا أن تغير من مخرجات أحلام اليقظة الصهيونية، لأنّها ستفرض خياراتها العادلة. ما يقوم به الاحتلال سيكون محرجا حتى لجامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي والأمم المتحدة، ولهذا السبب يسعى النتنياهو إلى الوساطة المصرية لتهدئة المقاومة، وهو شيء بات تحت طائلة تقدير المقاومة نفسها. لقد تجاوزت إرادة الشعب الفلسطيني كل التسويات والوساطات، ولا شيء يمكن أن يخترق الذكاء الطبيعي لشعب قرّر أن يخوض معركة التحرر الوطني.
الطفل العربي المقدسي المنتفض ليس فقط هو أمل لتاريخ مجروح وجغرافيا مستباحة، بل هو أيضا يوجد في قلب نظرية قلب الطاولة على التوازنات المغشوشة. هنا الاستجابة للمعادلة الموشومة بالذكاء الطبيعي. ينطلق الطفل الفلسطيني خارج ذلك الميثاق الذي وصفه مظفر النواب بالفاقد للشوارب، بل هي نوبة الفطام التي يتخرج فيها كل طفل فلسطيني على مرارة الاحتلال. هنا يبدو الطفل الفلسطيني أكبر من المواثيق الهازئة بالحق الأزلي للتحرر. كتبت عن الرهان على دور الطفل في مقارعة الاحتلال منذ الانتفاضة الأولى والثانية، كما اعتبرت أن لا مجال للإطاحة بنظرية الألعاب إلاّ بلعبة الأطفال، بفارق في المحتوى، حيث الطفل يلهو بجدّية(بورخيس).
نتساءل ما هو السقف الزمني لاحتلال يعاني عقدة الثباتية، ما هو ذلك السقف الزمني لتحقق حلم بليد بتصفية قضية يُفْطَم أطفالها على النكبة؟!

*كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار