عن الحلبي النبيل الصادح في أوروبّا عابـد عازريـة.. حفّار في أرض الذاكرة والباحث عن النغمات وراء الحروف

تشرين- علي الراعي:
من تحت شجرةٍ في حلب الشهباء، كان ينشدُ الوحدة تحتها في حينٍ من الزمن من أيام القرن العشرين، انطلق عابد عازرية، وكانت وجهته باريس، ليواصل إبداعه الموسيقي، بموسيقا عالمه التي كانت تنفتح، وكأنها جوازُ سفر كيميائي، يدخل من خلالها موسيقا الشعوب الأخرى، بدءاً من أول أعماله الموسيقية الذي خصصه للشعر العربي الحديث، ولينكشف في هذا الترحال الطويل، إنه مجبولٌ بالموسيقا، وأتى لهذه الدنيا ليُغني..!‌‌‏

كل اكتشاف أو تجاوز هو متعة، وكلُّ عمل جديد لا يُشبه سابقه، هو ما يبحثُ عنه..

حفّار في أرض الذاكرة
غير أنّ عابد عازرية، سيُلبي أول دعوةٍ توجه إليه ليأتي إلى الشام، بعد أربعين سنة غياب، والمناسبة كانت (دمشق عاصمة الثقافة العربية لعام 2008) ليُحيي أولى فعالياتها في دار الأوبرا، وليتعرّف إليه الشوام عن قرب هذه المرة، وقد سبقته أصداء نجاحاته هناك وراء المتوسط، كما حصل مع الكثير من السوريين، الذين تطول القائمة بأسمائهم.‌‌‏
في دار الأوبرا بدمشق قدم عازرية عمله “نصيب” مع الإسبانية آنّا فليب، و”نصيب” كان عازرية قد كتبه سنة 1986، وكان مكتوباً لرجلين، قدمه في سبعين حفلة، غير أنّ شريكه في هذا العمل الموسيقي قد أصيب بالمرض، وكان منذ ثلاث سنوات التقى الإسبانية آنا فليب، وفي هذا “المشروع” عاد وقصّ وركّب، وأنجز “قصة حب” مع كل مشاعر الفراق، الألم، واللقاء بأيام الأندلس، أي أنّ العمل يأتي كتحية للحضارة الأندلسية المُغرم بها- كما يقول – في بحثه عن الروح الأندلسية.‌‌‏
وقد ضمت حفلة “نصيب” ثماني أغنيات ومقدمة موسيقية، وأغاني مقتبسة من مجموعة نصوص شعرية أندلسية تعود إلى القرن الحادي عشر، تناوب على غنائها مع آنا فليب بمصاحبة موسيقا توّحد فيها الفلامنكو الإسباني والتقاسيم والإيقاعات الشرقية مع الموسيقا الكلاسيكية.‌‌‏

إبداع من تحت شجرةٍ في حلب الشهباء، كان ينشدُ الوحدة تحتها يصلُ به إلى العالم

المشروع الفكري
وبهذا يُخالف عازرية الكثير من الموسيقيين، الذين يجعلون النص في خدمة اللحن، حيث يؤكد عازرية، أنه في كل أعماله، تكون الأهمية في البدء للنص، وكل أسطوانة أنتجها هي مادة فنية قائمة بذاتها، يقول: أنا لا أعمل على الأغاني، وأنما أعمل على موضوع فكري شعري وفني، فهو لا يحب أن يُقلد أحداً حتى في اللباس، وكان وراء كل حرف ثمة نغمٌ مُخبّأ، وهكذا كان عازرية في كل أعماله حفّاراً في الذاكرة الشرقية، ومُنقباً أيضاً في الموسيقا المُعاصرة، مُبدعاً كيميائه الموسيقي المُتفرد، وكان لعازرية إلى جانب «نصيب»: الغناء الجديد للشعراء العرب 1970، وجد 1970، ملحمة جلجامش 1970، المُتصوفة 1979، أغنيات الشجر الشرقية 1985، للصغار فقط 1989، عمر الخيّام 1995، توابل 1990، لازورد 1995، فينيسيا 1986، والإنجيل بحسب يوحنا 1986.. وفيها كُلها يُغامر عازرية في غاباتٍ بكرٍ، وأراضٍ جديدة، غنّاها جميعها باللغة العربية، باستثناء “فينيسيا” وهي نص لأندريا زنزوتو، الذي وجده يُشبه النصوص الميثولوجية لبلاد الرافدين، وبدا كما لو أنه يحكي عن مُغامرات عشتار، وفيه اشتغل ليكون موسيقياً هذه المرة، وحسب، موسيقا خارج الانتماءات، ليُعيد من خلالها ترتيب العالم بجغرافيا موسيقية خاصة بعازرية، وليجعل العاصي يجري في البندقية، والنواعير تدور في ساحة القديس مُرقص، فبرأيه: الفن الجديد هو دائماً إعادة ترتيب للعلاقات الشاملة بين صُغرى الصغائر من جهة، وبين كُبرى الكبائر من جهةٍ ثانية، كلُّ ذلك يحدث بواسطة الحلم الكبير الذي يحتوي عليه العمل الفني، والذي هو في الحقيقة حلمٌ لواقعٍ غير موجود.‌‌‏

يُخالف عازرية الكثير من الموسيقيين الذين يجعلون النص في خدمة اللحن، حيث يؤكد في أعماله أهمية البدء للنص

في الغابات العذراء
في الموسيقا العربية، كلُّ تكرار متعة، أما بالنسبة له، فكلّ اكتشاف، أو تجاوز هو متعة يحصلُ عليها، يقول: كلّ عمل جديد لا يُشبه سابقه، هو ما أبحثُ عنه، الهدف الموسيقي والفني، لا يُمكن التقاطه، والحصولُ عليه نهائياً، وكل عملٍ جديد، هو قبض، أو حصول على جزء منه.‌‌‏
وكما اكتشف أدونيس في الغرب: المُتنبي، وأبي النواس، والنُّفري، كذلك جعل البعدُ عابد عازرية يرى عن كثب الثقافة التي ولد فيها، هناك اكتشف النصوص المؤسسة لحوض المتوسط، ثمّ ليجد لها أشكالاً وأجواءً موسيقية، فكان للقديم أن يتجدد بشكلٍ مُغايرٍ للقديم والحديث من الفنون، يوالف بين ألوان قد تبدو مُتنافرة، ومزاوجاً بشغف بين الآلات الشرقية والغربية بخصوصية عازرية، وليردّنا هذا “المُغترب” في باريس إلى ينابيعنا في “الشام‌‏ “وبلاد الرافدين..!!‌‌‏

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار