بغداد.. مدينة السلام والحضارة تحتفل بذكرى تأسيسها الـ 1262
تشرين- د.رحيم هادي الشمخي:
بغداد درة العصر العباسي وموطن العلم والعلماء تحتفل اليوم بذكرى تأسيسها الـ 1262م على يد بانيها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي شيّد مجدها التليد على نهر دجلة ثم أعزها بحكمته وعلمه الخليفة هارون الرشيد الذي في عهده وعهد ابنه المأمون كانت بغداد موطناً لمن حجّ إليها من الوافدين من بلاد العالم للدراسة في مدرستها المستنصرية، وفي بيت الحكمة الذي ضم أساتذة كبار في علم الترجمة والفلك والرياضيات والهندسة والبناء والطب والشعر والنثر والبلاغة وعلوم الحياة، وزارتها وفود من الروم والفرس وبلاد خراسان، وعجّت شوارعها بالطرب والفن حيث توافد إليها آلاف المغنيات من سمرقند والصين وفارس ومصر والمغرب العربي ودلمون والروم وبيزنظة وكل بقاع الأرض، وكان للخلفاء العباسيين دورهم في إرسال البعثات العلمية والأدبية إلى بلاد الصين وفارس وسمرقند وأوروبا، مما كان له الأثر الكبير في نشر وتأليف الكتب العلمية والأدبية في الأمصار المنتشرة في بلاد العالم.
بغداد.. ستبقى مناراً للعالم وهي تستمد قوتها من عاشقها أبو جعفر المنصور، رغم عاديات الزمان وخراب هولاكو والتتر لأبنتيها ومدارسها وحرق كتبها القيمة وقتل أهلها، بقيت بغداد تحكي بطولات شعب لا يقهر في الشجاعة والكرم والعلم والمعرفة، وفي العصر الحديث استطاعت بغداد أن تنجو من (21) احتلال خلال (13) قرناً وتعود متعافية إلى وطنها العربي لتعانق شقيقاتها العربيات (دمشق والقاهرة وتونس والجزائر) وكل مدن الوطن الأكبر، وها هي تحتفل بعصرها الذهبي الـ(1262).
هذه بغداد منبت العلماء والفضلاء ومرتاد الدارسين والمتعلمين، ومنتجع الطالبين والمستفيدين، رجعت إليها رئاسة الاقراء في القرآن الكريم في العصر العباسي، إضافة إلى الدراسات الدينية واللغوية وعلوم الحساب والفرائض والطب، وكانت ثقافة الخلفاء العباسيين جزءاً لا يتجزأ من ثقافة العلماء والفقهاء وهم الأقرب إلى أهل العلم، فالخليفة أبو جعفر المنصور باني مدينة السلام، مدينة العلم (بغداد) قد اشتهر بثقافته الواسعة وتقريب العلماء والأدباء وتوجيههم نحو ترجمة علوم الأمم الأخرى في الطب والمنطق والفلسفة، ففي زمنه وفد إلى بغداد عام (145ه- 770م) وفد هندي يرافقه عالم في الفلك، فكلفه المنصور بإملاء مختصر الكتاب باللغة (السنسكريتية) وهي لغة الهند القديمة، عن علم الفلك وترجمته إلى العربية، واستخراج كتاب ميسر بالعربية يتضمن حساب حركات الكواكب، فضلاً عن ذلك فإن هذا الوفد ضمّ عالماً آخر في الحساب اسمه (كانكا) ومعه كتاب يعرف بالسند، فكلفه المنصور بترجمته إلى اللغة العربية بعنوان (السند هند) ولم يكتف بذلك، بل شجع العالم العربي (أبا اسحق ابراهيم بن حبيب الفزاري) تأليف كتاب على نهج السند هند، سماه (السند هند الكبير).. إن هذا لا يأتي إلا كدليل على اهتمام الخليفة وسعة أفقه الثقافي، والواقع انه كان ضالعاً في معرفة العلماء وتشجيعهم، ولذلك فقد أنجب عصره نخبة خيّرة من علماء تدوين الحديث والفقه والتفسير والعلوم، كـ(ابن جريج في مكة، ومالك في المدينة، والأوزاعي في الشام، وابن عروبة، وحماد ابن سلمة في البصرة، وسفيان الثوري في الكوفة، والإمام أبي حنيفة صاحب مدرسة الرأي في بغداد.
أما الخليفة هارون الرشيد وابنه المأمون فقد حققت حركة الترجمة والتأليف في بلاد العرب والمسلمين ودول العالم في عهدهما نقلة نوعية، إضافة إلى ذلك ازدهرت حركة الشعر والموسيقا، وبرز أعظم الشعراء ومن بينهم (المتنبي، البحتري، أو نواس، وأبو فراس الحمداني، وسيف الدولة) وغيرهم من الشعراء الذين قرؤوا في حضرة الخليفة الرشيد قصائدهم، وكذلك الموسيقي (زرياب) الذي قدم أكثر الألحان الموسيقية.
ومما قيل عن بغداد من شعر في العصر العباسي؛ ما قاله الشاعر الشيخ ابن الفارض:
أرَجُ النّسيمِ سَرَى مِنَ الزَّوراءِ
سَحَراً فَأَحيا مَيِّتَ الأَحيَاءِ
وقال الشاعر ابن زريق البغدادي:
أَسْتَوْدِعُ اللَهَ في بَغْدَادَ لِي قَمَراً
بِالكَرْخِ مِنْ فَلَكِ الأَزْرَارِ مَطْلَعُهُ
أما الشاعر الإمام القاضي أبو محمد البغدادي:
سلامٌ على بغداد في كل موطن
وحُقَّ لها مِنِّي سـلامٌ مضاعفُ
وقال (قمر اشبيلية) عن بغداد:
آهــاً علـى بغـدادها وعراقهـا
وَظِبائهـا والسـحر فـي أحداقِها
وَمجالهـا عنـد الفـراتِ بـأوجه
تَبــدو أهلّتهـا علـى أطواقهـا
وأنشد الشاعر اسحق الموصلي قائلاً:
إذا ذكرَت بغدادَ نفسي تقطّعت
من الشوقِ أو كادَت تموتُ بها وجدا
كفى حَزَناً أن رُحتُ لم أستطع لها
وَداعاً ولم أُحدِث بساكنِها عَهدا
وقال الشاعر مصطفى جمال الدين عن بغداد:
بغداد ! ما اشتبكت عليك الأعصرُ
إلاّ ذوت، ووريقُ عُمركِ أخضرُ
مرت بكِ الدنيا وصُبحكِ مشمِسٌ
ودجت عليك، ووجهُ ليلك مُقمرُ
وقست عليكِ الحادثاتُ فراعَها
أن احتمالكِ في آذاها أكبرُ
وبغداد تاريخ حافل بالبطولات، وقصة حضارة لم تنته فصولها بَعْد، وليس لعمر التاريخ حدّ.