جدل الأصيل والعارض في الماهية.. في الحاجة إلى استئناف القول في الحركة الجوهرية
تشرين- ادريس هاني:
إنّ استيعاب الحاضر يمنحُك بصيرة فيما مضى وما سيأتي، ذلك لأنّ ما كان من ثوابت الاجتماع الإنساني فهو هو، وما كان متحوِّلا، فهو على قاعدة الحركة الجوهرية، تنحفظ معه الماهيات فانفذ إلى جواهر الأمور، ترى فيما مضى وما سيأتي بصيرة لا تُخطئ الواقع، وإن تمادت مشوِّشات الأعراض.
وعليه، فانْظرْ تجد أنّ الحركة الجوهرية تكسبك وعياً بالزمن حتى بتخارجاته السوسيو- تاريخية وبرسم الخبرة التّاريخية لـ«الدّازاين». إنّنا مع تجاهل الحركة الجوهرية، نفقد أفق الرؤية الجامعة للزمان في ثلاثية تخارجاته الأزلية، بل إنّنا بهذا التجاهل نفقد القدرة على استيعاب الآني.
إنّ الدراسات المستقبلية تعزف عن هذا التّأسيس الذي يمنح الحدس مقاماً عليّاً في المكاسب المعرفية، وهو ما يقتضي أنطولوجيا مستقبلاتية تتجاوز منطق المقايسة التجريدية، وتستند إلى الحدس والاحتمال وحقيقة تشارك ما به الامتياز مع ما به الاشتراك في الحركة الجوهرية. إنّ فهم الماضي والمستقبل بعيداً عن استيعاب الحركة الجوهرية، هو وفاء غير مُعلن لانقلاب الماهيات.
اختلاف العوارض لا ينفي ثبوت الماهية، وثبوت الماهية لا يعني ثباتها. وقد كان هذا هو الفيصل بيننا وبين من أنكر جوهرانية العقل فرقاً من القول بثباته، في وقت أكدنا بأنّ ثبوت الجوهر لا يلزم عنه ثباته في منظور الحركة الجوهرية.
إنّ فكرة تركيب الواقع لا يمكن استيعابها إلّا من منظور الحركة الجوهرية، وهو تشبيك مهما بدا موغِلاً في التعقيد إلّا أنّ مفتاح استيعابه هو الجوهر. لقد تطوّحت الفلسفات القديمة بسبب تطوحها في وعيها بالجوهر، فليس المشكل كامناً في أنها كانت فلسفات للماهيات، بل لأنّها كانت عاجزة عن تقبّل الحركة من دون انقلاب الماهيات لا سيما في الإنسانيات. وها قد استقلّ علم الطبيعة عن الفلسفة التقليدية وأنجز، ولاسيما في حقل الفيزياء، إنجازات عظيمة في ما فاق قواعد الميكانيكا، قابضاً على تشعبات الظاهرة الميكروفيزيائية، في حراكها المستدام، وتحولاتها غير المتوقعة، وفي تمنعها عن القياس، وفي تعزيز الاحتمال الفيزيائي تأسّياً بالاحتمال الرياضي. إنّ عبادة الثبات ما قبل كوبرنيك على الصعيد الكوسمولوجي، تهاوت مع اكتشاف الحركة الشمولية وتعدد مستويات الواقع.
لا تذهب بك الظنون فترى أنّ هذا لا شأن له بمناحي الحياة والمعرفة الاجتماعية، فالحركة الجوهرية هي في النفس قبل الطبيعة، بل هي في النّفس تمتاز بعدم انقلاب الماهية بخلاف ما هي الحركة في الطبيعة، غير ممتنعة عن انقلاب الماهية. وهذا ما يمنح النفس والاجتماع البشري ميزة حركة تكاملية فيما تقع الحركة نفسها عليه. ففيما عدا عالم الإنسان، ترتبك الحركة الماهية، لأنّها ليست أصيلة، وها هنا سأعلن ما آل إليه نظري في علاقة الوجود بالماهية:
– إنّ امتناع انقلاب الماهية في النفس البشرية، وانحفاظ الجوهر في كل أطوار الحركة، دليل أوفى على أنّ الماهية برسم الإنسانية أصيلة في أنواعها، أقصد بذلك أنّ الماهية أصيلة من حيث هي في النوع، ومن حيث هي متوقّفة في تمظهراتها على الوجود، هي اعتبارية. هكذا تبقى الماهية هي هي بين أنواع الإنسان، كإنسان هايدلبيرغ وإنسان روديسيا وإنسان نيانديرتال والإنسان الصانع والإنسان العاقل…ولكنها اعتبارية من حيث قيامها بالوجود.
– إنّ أسباب جمود الوعي والعقل وتأخر الوعي بالطبيعة والتباس الماضي وغموض المستقبل، نابع من سوء وعينا بهذه النكتة التي ما زالت ثانوية في التفكير الفلسفي الحديث إن لم نقل من مجاهيله، بينما هي تقع في أصل كل انقلاب ميتافيزيقي أو علمي. إنّ تصوّرنا للجواهر هو ما يحدد أفقنا الفلسفي، تلك التي اقترب منها غاستون باشلار، وبحدس فيلسوف العلم الوقّاد، سمّاها بالعقبة الجوهرانية.
– وحتماً إن نظرتنا للجوهر تقودنا إلى نظرتنا للوجود، وكل ما يبدو أمامنا من جدل، يتوقف على إدراكنا للوجود من حيث مكانته من الماهية. وحتى الحركة الجوهرية لا تقوم من دون حسم في أصالة الوجود، ذلك لأنّها الرؤية التي تجعلنا نقرأ التطور في الثبات والثبات في الحركة، هذا الوجود الذي يعرض على الماهيات، وبه تكتسب تمظهراتها الجديدة، فأنّى يحصل ذلك إن لم نرَ للوجود حالات في الكثافة والكدورة، في الحركة التي تعزز تراتبية الوجود وتشكّكه. ففي هذا الاشتباك الوجودي والماهوي، تمنحنا الحركة فكرة عن تحوّلات تجري في الجوهر، بها يتعالى الوجود أو يتدانى، ومعها تتمظهر الماهيات في عناوين شتّى وعوارض تترى.