ولذلك ستنتصر..
ادريس هاني:
حروب الاستنزاف على الوعي لا تقلّ خطورة عن الاستنزاف بمعناه العسكري، اليوم نقاوم بالقدر المستطاع وضعية الملل الذي ينتهي بموت الضمير الإنساني. كم نحتاج أن نحافظ على طراوة هذا الضمير، لأنّ ما يفعله الوحش لا يهدف فقط إلى الخراب والإبادة فقط، بل ثمة محاولة لإبادة الضمير الإنساني.
لقد دمّر الاحتلال كل البيوت والمنشآت بما فيها المراكز الصحية في غزّة وفي لبنان، آخرها استهداف محيط مستشفى الحريري، ولا يحتاج الاحتلال إلى مبرر، فيكفي أن يقول إنّ تحته مخازن للسلاح، القصف يمتد في كل مكان، حارة حريك والشوف والجناح وسان تيريز والأوزاعي.. ولم يعد هناك مكان غير آمن، أمّا الجنوب فقد بات قرى أشباح، في هذه الحرب أخذنا صورة كاملة عما يمكن أن يحدث عند قيام حرب عالمية ثالثة، هل سيكون حجم الدمار أكبر؟
هذا القدر الهائل من الدمار يرمي إلى كسر ذراع المقاومة، لكن ما يظهر لنا وما يخفيه الاحتلال، هو أنّ منسوب التصعيد كبير من جانب المقاومة، فالاحتلال ما زال عاجزاً عن التقدم البرّي، بينما مدنه تحت القصف اليومي، ولم يستطع الاحتلال إسقاط المقاومة.
سرديات الاحتلال وتوابعه تتكسّر أمام صخرة التّاريخ، العنف عنفان: عنف الاحتلال اللاّمشروع وعنف المقاومة المشروع في القانون الدّولي، لكن حروب التأويل أفسدت الحقيقة.. لقد حمل المواطن الفلسطيني البارودة منذ 1948، في كفاح مستمر لم يتوقف يوماً، وزحف الاحتلال على الأراضي المحتلة والعربية لم يتوقف منذ 1967، وحصل هذا قبل الثورة الإيرانية، وقبل وجود حزب الله وقبل حماس.. السردية نفسها تكررت مع فتح والجبهتين وسائر الفصائل الفلسطينية، التشنيع على المقاومة يكذبه التّاريخ، والذي ملأ الدنيا عدواناً وعنفاً هو الاحتلال، أنسيتم يوميات زحف مستوطناته واقتحام البيوت والبلدات والاستفراد بالسكان؟ متى كان في ملّة البشرية الاحتلال على حق؟
ماذا ينتظر الاحتلال من جيل خرج من تحت الأنقاض؟ لقد حشر الاحتلال الإقليم في زاوية خيارين كلاهما يفضي إلى انهيار ما تبقى من الأمن القومي العربي؟ وماذا لو تمكنت حكومة المتطرفين من إكمال مخطط تنفيذ الإبادة؟ وماذا لو سقطت فلسطين؟ وماذا لو سقط لبنان؟ أي مستقبل عربي آمن بعد إقرار شرق أوسط جديد بشروط الاحتلال؟ لكل مرحلة شروط واستحقاقات، هل أدركتم أي شروط تنتظركم؟ قد نميز بيننا، لكن الاحتلال لا يميز بيننا.
هذا الجنوب مشتل الأرز والسنديان والزعرور والشهادة، مازال جنوباً صامداً كالأساطير، وهو اليوم يكافح مرتين: مرة ضدّ الإبادة ومرة ضدّ التشنيع، مقاومة مضاعفة.
هذا الاحتلال أضعف من أن يواصل حرباً بنفسه، فهو عالة على «الليّ خلفوه»، هو مدلّل في لعبة أمم معقدة، لكن كل لعبة لها نهاية، أمّا أصحاب الأرض فعمرهم لا يقدر بيولوجياً فحسب، بل يقدر جيولوجياً أيضاً.. إن لم يسقط الاحتلال اليوم فهو ساقط في دورة حضارية آتية لا ريب فيها، أم هل يا ترى أن الاحتلال قد أنساكم هذه الحقيقة أيضاً؟!
إنّ أوهام الاحتلال والمراهنين عليه كثيرة، وسقفها أعلى من سقف انحطاطنا، غير أنّها أوهام تحترق في خطّ النار، المشكلة هي أنّ المقاومة تملك من قوة العزيمة وتقنية الصمود ما يصعب تقويضه بالحرب النّفسية، فالمقاومة ليست دولة، بل هي حركة تحرر وطني، لكنها اليوم تقاوم إمبراطورية سبق وهزمت اليابان وألمانيا وكامل المحور، لكن المحور كلّه اليوم عاجز عن إسقاط المقاومة.. إنّها حقّاً ظاهرة فريدة من نوعها، ولذلك ستنتصر.