حتى لا تحرقهم أنوار المشاهير… تقليد الأطفال للسلوكيات الموجودة في وسائل التواصل الاجتماعي أمر خطير إذا غابت رقابة الأهل

تشرين- إلهام عثمان:
في زحام القيم المتضاربة، نرى الأطفال يقلدون بعشوائية بريئة ما يشاهدونه أو يسمعونه، لذا يستحق تقليد الأطفال العشوائي الانتباه من الوالدين؟ خاصة إذا فقدا البعض السيطرة على بوصلة التحكم بإدارة بعض التفاصيل أمام هيمنة وسائل الإعلام والشخصيات المشهورة وصانعي المحتوى، فهل يعكس تقليد الأطفال لهم، احتياجاتهم، أم هو مجرد استجابة عفوية؟.. ليبقى السؤال المحوري: كيف يمكننا تأطير هذا التقليد ليكون أداة للتميز بدلاً من العجز؟
“أم وطن” تقول، أخشى دائماً على أطفالي من تقليد الشخصيات التي تغزو شبكات التواصل الاجتماعي، فهناك صانعو محتوى يتعاملون مع الآخرين بشكل سلبي ويسخرون من الغير، أو يستخدمون ألفاظاً نابية لجذب عدد أكبر من المتابعين، ما يجعلني قلقة على أطفالي من تقليدهم لهذا السلوك السيئ.

تساؤلات
وفي تصريح لـ”تشرين” كشفت الاختصاصية في التربية والإرشاد الأسري الدكتورة مريم الحاج عثمان، أنّ ما يثير رغبة الأطفال في تقليد الأغاني والفيديوهات الأكثر رواجاً، رغم “تراجع جودتها”، يعدّ موضوعاً خطيراً، فالطفل بطبيعته الفطرية يميل إلى تقليد ما حوله، إذ إنّ المحاكاة تمثل المرحلة الأولى من رحلة نموه في فترات الطفولة المبكرة، حيث يجد نفسه في مرحلة التقليد، فيستلهم من الشخصيات القريبة منه؛ مثل والديه، إذ يلاحظ كيف تتصرف الأم في ارتداء الكعب العالي ووضع العطور والماكياج، وكيف يتعامل الأب في مواقف حياتية مختلفة، هذا التقليد يشمل أيضاً أقرانه في المدرسة والمعلمين، وحتى الشخصيات المشهورة التي تدور في فلكه.

جاذبية الفضاء الأزرق
أما بالنسبة لرغبتهم في تقليد الحركات والرقصات التي يقدمها المشاهير في وسائل التواصل الاجتماعي، وفقاً للحاج عثمان، فإن الأطفال يسعون إلى استكشاف القيم الجديدة، إذ لا يخفى على أحد أن الشخصيات البارزة تحمل جاذبية خاصة، ما يجعل الأطفال ينظرون إليهم كنماذج محتملة يحاولون الاقتداء بها، إذ تشكل هذه الشخصيات وسيلة للطفل للإلمام بالأحداث العالمية والمحلية، وكذلك أحدث الصيحات في مختلف المجالات.

تشكيل هوية الطفل
ومما لا شك فيه أن تعلق الطفل بالمشاهير يسهم في تشكيل هويته، وحسب رأي الحاج عثمان، فهو يرى فيهم مثالاً يحتذى به، إذ يبدو لهم أنّ حياتهم مثالية، ويسعون لتحسين مستوى حياتهم عبر الاقتراب من هذا النمط، ويمكن أن يعتبر التقليد سلوكاً طبيعياً يساعد الطفل في التعبير عن مشاعره وتفريغ طاقاته؛ فهو يلعب دوراً مهماً في نموه النفسي والاجتماعي.
من جهتها بينت م.م وهي أمٌّ للطفلة ريما أن طفلتها ذات العشر سنوات، تقوم بتقليد شخصية مشهورة تحب الطبخ وتشارك وصفاتها على اليوتيوب، وهي مسرورة بذلك وتقوم بتشجيعها على تطوير مهاراتها الجديدة.

إيجابيات وسلبيات
هذا التقليد وفق ما بيّنته الحاج عثمان، يمكن أن تكون له فوائد إيجابية، مثل تعزيز الإبداع والتعبير عن الذات، ولكنه يحتاج أيضاً إلى إشراف من البالغين للتأكد من توجيه هذه السلوكيات بطرق صحية وإيجابية، مشددة إلى أنه يجب الانتباه إلى أنّ التقليد يمكن أن يأخذ أشكالاً عشوائية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بتقليد الشخصيات على منصات التواصل الاجتماعي، حيث قد يظهر الأمر في بعض الأحيان لدى الأطفال الذين يفتقرون إلى الثقة بالنفس، أو الذين يواجهون صعوبات في بيئتهم الأسرية، فقد يلجأ الأطفال إلى تقليد حياة المشاهير كوسيلة للهروب من قسوة الواقع أو الظروف السلبية التي يعيشونها في منازلهم.

انعكاس الرغبة
إنّ النقاش والحوار مع الأطفال لا ينبغي أن يتم مرتين في الشهر، بل يجب أن يكون جزءاً يومياً من حياتهم، تضيف الحاج عثمان، حتى في مرحلة الطفولة المبكرة، من المهم تخصيص نصف ساعة يومياً للحديث مع الأطفال عن المخاطر المحتملة لتقليد شخصيات أو نماذج لا تتناسب مع قيمنا ومعتقداتنا، فعلى سبيل المثال، إذا قام الطفل بتقليد شخصية مشهورة أو كرتونية، يتحتم على الأهل توضيح الصفات الإيجابية والأخلاقية التي تميز تلك الشخصيات، وكيف يمكن للطفل أن يتبنى سلوكيات إيجابية مشابهة، إذ يتعين على الأهل يتعين إدراك أن الأطفال يمتلكون القدرة على التعلم والنمو في كافة المواقف، على الرغم من أن التقليد الخاطئ قد يبدو مضحكاً أو عابراً، إلّا أنه يعكس الرغبة الطبيعية في التعلم وبدلاً من إدانة ذلك، يجب على الأهل تشجيع أطفالهم على تطوير سلوكيات إيجابية مستدامة، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية الرعاية والاهتمام في مراحل الطفولة المبكرة.

دليل فوضى أم
أما عن تساؤلنا، هل التقليد دليل على الفوضى في مشاعر الطفل أم هو علامة على الذكاء؟ فإن الإجابة قد تكون مزدوجة، وفق ما أكدته الحاج عثمان، فالتقليد يمكن أن يكون رد فعل لتعويض نقص في شخصية الطفل، بحيث يلجأ إلى تقليد قدوة تحتذى، وغالباً ما تكون هذه القدوة من عالم المشاهير، في الوقت نفسه، يمكن أن يكون التقليد مؤشراً على الذكاء، حيث يظهر الطفل فهماً عميقاً للحركات والمفردات والأفكار، حتى في الظروف العائلية الصعبة، قد يظهر الطفل ذكاءً عالياً عبر تقليده ومراقبته للأمور من حوله.

منصات تقليد
كما أشارت الحاج عثمان إلى أن مراحل الطفولة تتوزع على منصات تقليد مختلفة، حيث تظهر كل مرحلة سمات خاصة، ففي مرحلة الرضاعة والطفولة المبكرة، يبدأ الأطفال بتقليد سلوكيات المحيطين بهم، يكتسبون منها الحركات اليدوية والتعبيرات الوجهية، أما في الطفولة الوسطى، من عمر 6 إلى 12 عاماً، يبدأ الأطفال بتقليد سلوكيات أكثر تعقيداً بما في ذلك الأخلاق وآداب السلوك.
مضيفة: أما في مرحلة المراهقة، فيواصل الطفل تقليد الآخرين، لكن يصبح هذا التقليد أكثر تعقيداً، إذ يسعى الطفل لتشكيل هويته وسلوكه بناءً على معطيات البيئة المحيطة به، وقد يعزى بعض هذا التقليد إلى نقص الثقة بالنفس أو المرور بتجارب سلبية، مما يدفعه للبحث عن نماذج ناجحة يحتذي بها.

نظرية التقليد
تعدّ الطفولة المبكرة من أخطر مراحل العمر في نظرية التقليد، هذا ما بينته الحاج عثمان، حيث يحدد طريقة تعاملنا مع الطفل في هذه المرحلة نوع الشخصية والأسلوب الذي سينشأ عليه لاحقاً، إذا أحسن التعامل مع هذه المرحلة، فإن مرحلة المراهقة ستكون أكثر انسيابية، وسيدرك الطفل نفسه في واقع مستقل، أما إذا أسيء استغلال الطفولة المبكرة، فقد ينتج عن ذلك تقليدٌ عشوائي وغير موجه.
توجيه الأهل
وهنا يأتي دور الأهل، هذا ما أكدته الحاج عثمان حيث يجب عليهم توجيه أبنائهم وتبني أسلوب تربية يحد من التأثيرات السلبية للاستهلاك المفرط للمحتوى الرقمي، يعتبر من الضروري على الأهل تقنين استخدام الأجهزة الذكية وتعليم الأطفال كيفية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بحذر وتوازن، كما ينبغي أن يخصص الأهالي وقتاً للتحدث مع أطفالهم حول فخاخ الشهرة المزيفة وأن هناك جوانب خفية وراء حياة المشاهير لا يدركها المتلقي، ما يساعد على تكوين وعي أكبر لدى الأطفال حول هذا الموضوع.
باختصار، ووفق رأي الحاج عثمان؛ تعد مرحلة تقليد الأطفال جزءاً طبيعياً من نموهم؛ ومع ذلك، يتوجب على الأهل التدخل بطريقة إيجابية لتوجيه هذا التقليد نحو مسارات تعود بالفائدة على الأطفال وتنمّي شخصياتهم بشكل سليم.
واختتمت الحاج عثمان: من الضروري أن يتعامل الأهل مع رغبة الأطفال في التقليد بروح من المسؤولية، وتشجيعهم على التعلم والنمو في مختلف المواضيع، ما يضمن لهم تحقيق إيقاع صحي في حياتهم.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار