في إلحاحية الحدس.. في استحالة التّسلسل تأكيد على حجّية الحدس

تشرين- ادريس هاني:
الخلط بين ما ذُمّ منطقياً من ضروب الأقيسة، وما لا غنى عنه في الاستدلال الصحيح والبرهان القويم، يصبح أحياناً طريقاً من طُرق المُغالطة.. ذلك لأنّ الإشكال هنا لا يتعلّق بصورة القياس بل بمناطه.. يمكن أن تقيس كلّ شيء، لكن لا يمكن بالضرورة أن تحافظ على مناط القياس، فهو شرط في تحقق البرهان الصحيح به.
وتحقيق المناط من دون قيد قد يكون هو نفسه عُرضة للمغالطة، وفي طريق الاستدلال على صحة المناط وتحققه، لا سبيل لنا غير القياس الصحيح، القياس المنطقي الذي لا مناص من تحقق الحجة فيه والوسط.
وعليه، فإنّ حضور الحدس في كل عملية استدراكية لتحقيق الوسط، يعزز رأينا في حاجة البرهان للحدس عند كبواته القياسية، فالحدس يُقوّض الظنون، وها هنا يتّضح المائز بين الظّن والاحتمال، فالظن بالوسط الذي تتثبت به كبرى الدليل لصُغراه، يكتسي عادة عند المُغالط صفة اليقين، بينما الاحتمال يحسب العدد الممكن مما هو محتمل من دون ترجيح ظنّي، بل بحساب الاحتمالات التي لا ظنّ فيها.
هل وجب أن يكون الوسط بُرهانياً قبل أن يتحقق به القياس المنطقي، أم إنّ الأمر سيتسلسل؟
واضح أنّ التسلسل مستحيل لسبب بديهي، لأنّ معه تستحيل المعرفة، وحيث لا فكاك من التّسلسل إلاّ بإدراك موقع الحدس من العملية المعرفية، في الفرضية ابتداء، وبين تخوم المقدمات ثانياً وعند الاستنتاج في الدليل الاستقرائي ثالثاً. وكما أكدنا مراراً، فالفرضية مدينة للحدس، والوصل بين المقدّمات إنّما يتمّ بالحدس من الجهة ذاتها التي تتأكد ضرورتها في الاستنتاج الاستقرائي، لما علمنا بأنّ ما تنطوي عليه المقدمات نفسها من عناصر لا نهاية، لأننا في المقدمة الواحدة لا نستوفي شروطها وحيثياتها وجزئياتها كاملة، أمّا في الاستنتاج والتعميم، فتحققها بحدس يتعذر بلوغه بالبرهان التّام كما هي الحال في الدليل الاستنباطي.. وإن كان الأمر هنا يقتضي مزيداً من التّأمّل، حيث تركيب الواقع لا نهائيته، يجعلنا أمام تحدّي السؤال: هل الاستنباط بالفعل ممكن من دون استقراء؟
إنّ القول باستيفاء النتيجة لكامل المقدمات في الدليل الاستنباطي(la déduction) مع فرض لا نهائية الواقع، يثير هذا الاستشكال، الذي قد نتناوله في سانحة أخرى، لأنّ الانطلاق من نظريات هي في الأصل نتيجة تعميم استقرائي، للاستدلال على قضية خاصّة، يعيدنا إلى التعميم المأخوذ أساساً في الاستنباط، فيتأكد أنّ الاستنباط هو عالة على الاستقراء. وعليه فإنّ استحالة التّسلسل تعزّز من وظيفة الحدس في أي استدلال منطقي.
إنّ الوسط إمّا أن يكون مُحقّقاً أو مظنوناً أو تتساوى أطرافه في حساب الاحتمال، فإن كان مُحققاً، فما هو مَدْرَك تحققه؟.. وإن كان ظنّياً، فما هو مرجّح ظنّيته؟.. وقد رأيت أنّ لا مرجح للظن، إلاّ الظّن عند خلوّ المقام من آمر من حدس وما سواه، كي يستحيل ظنّاً خاصاً مُرجّحاً بإمضاء مُمْضٍ، وغالباً ما يكون ترجيحاً بلا مرجح، فتقرر الحسم إذاك بحساب الاحتمال.
وترى المغالط في متاهة من أمره، كلّما تعلّق الأمر بماهية الوسط ومَدرك رجحانه، هرع إلى قياس من دون وسط مُحَقَّق، لكنه يستمد خداعه من صورة القياس، وحمل هذا على ذلك بخفّة مُغالط، وثبوت هذا لذاك حتى من دون واسطة في الإثبات أو الثبوت على النحو المُطَمْئِن.
ولا يغرّنك عدم اكتمال الدليل الاستقرائي بما يوحي بأنّ الظّن العام بالوسط يدخل في جنس اليقين الاستقرائي من دون استيفاء كامل المقدّمات، فهذا باب للمغالطة أوسع.. فالاطمئنان يحصل بحدس خفيّ يتقرر متى تراكمت مقدمات الدليل الاستقرائي حدّ الإشباع فالاطمئنان، فلا يُستمد الاطمئنان من إرهاق نفسي في منتصف الاستدلال من فرط تتبع المقدّمات المحتملة، بل يُستمد من تحقق ما سميناه الإشباع الدّليلي، المورِث للاطمئنان، بمدرك الحدس الخفي، إذ لا مناص من التمييز بين الحدس والظّن، حيث هناك مكمن إشكالية الاستدلال المنطقي.
الظّن رغبة والحدس إلحاح.. وغالباً ما يلحّ الحدس من دون ارتباط بدافع غريزي أو مصلحة، فهو حدس ينطوي على قدر من التّعالي، بينما الظّن ينطوي على رغبات توحي برجحانه لهوى في النّفس لا إلحاحاً من العقل.. التنازل عن الظّن يترك أثراً في النّفس مصدره العناد والرغبة الشديدة، بينما التنازل عن الحدس يترك أثراً في البناء المنطقي، إذ لا طريق للترجيح عند الإشباع الدليلي إلاّ الحدس.. يستند الظن إلى دوافع خاصة، وينطلق الحدس من استيعاب عميق ينتج عنه ذوق معرفي، ويتنزّه عن المصلحة والمزاج.
إنّ إلحاحية الحدس مَدْرَكُها الذّوق، وهو الذوق ذاته الذي نستشعره عند إلحاح الفرضية، وهو نفسه ما نستشعره لحظة الاستنتاج في الدليل الاستقرائي، لا ينتج عنه إحساس بالذّنب المعرفي، وهو ما يحصل في الاستدلال بالترجع(le raisonnement par récurrence). وحده الرياضي يستشعر إلحاحية الحدس في الطفرة الاستقرائية التعميمية.

إنّنا في عملية الاستدلال المنطقي لا نتخلّى عن هذا التركيب الناشئ من ملكات الفكر، حيث العقل يسوس تلك الملكات بما فيها المشاعر والذوق والخيال والواهمة، ولا يمكن الاستغناء عنها، وإن كانت المعضلة تكمن في استقلالها عن مهامها ومسؤوليتها تجاه الحسّ المشترك.
شيء مهمّ يُعوّل عليه في مُكابدة العلم: اليقظة، الاحتمال، الحدس، والباقي تفاصيل لا يستنقص منها الذّهول الطارئ والكبوات الموضوعية في الاستنتاج، حيث العلم يتطوّر بأخطائه الموضوعية، بمُكابدته الاستكشافية، ببرامجه المحفوفة بيقظة التخطيئ والدحض، برقابته، وتراكماته التي معها ينمو حدسنا ويكتمل.. إنّ الخطأ في العلم ليس معرّة بقدر الإصرار على الظنون المستنفذة والمعوقة لانقلابات العلم وإعادة اختبار النظرية، لا بل الفرضية نفسها مهما نتج عنها من انتصارات علمية مبهرة.
إنّ نهج المُخطّئة الذي سارت عليه المدرسة العدلية في تراثنا، ثم ما لبث أن تولّد بآفاق جديدة عند بوبر رائد التخطيئ وداحض النظرية، هو وحده يعزّز تلك اليقظة وعدم الخضوع للدّعة والثِّقة بما كسبت عقولنا في طور ما وجيل ما من عمر المعرفة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار