“جبُّ الهوّة”.. ارمِ همومك وارجع سعيداً!
تشرين- زيد قطريب:
الاسمُ يثيرُ الذعر.. فرغم جماليات قلعة “شميميس”، وإطلالتها الرائعة، إلا أنها تحوي أخطر الأمكنة وأكثرها غموضاً في المنطقة.. إنه (جبُّ الهوة)، أو حفرة الرعب، التي لا يعرف قرارَها أحد، ولم يدخلها شخص، وخرج حيّاً، على الإطلاق!.
المكان هنا إستراتيجي، فهو يكشف عمق البادية شرقاً، ويطلّ على أفق مفتوح من الغرب والشمال. ومنذ القرن الثاني قبل الميلاد، تتالت على القلعة حضاراتٌ، اعتبرت السيطرة عليها أمراً حيوياً.
الرحلة تبدأ من السفوح الغربية لسلسلة الجبال المجاورة لمدينة سلمية، حيث يظهر الجبلُ القلعةُ، الذي لم تكتشفه البعثات الأثرية حتى اليوم، كأنه كتفان عريضان لمحارب ضخم. فنتأكدُ أن تسلق الجبل والدخول للقلعة، وتصوير جبّ الهوّة، لن يكون سهلاً.
القلعة محاطة بخندق ضخم، كان يُملأ بالماء، فلا يوصل إليها سوى جسر خشبي متحرك، يتم رفعه أثناء الخطر، حتى لا يتمكن الأعداء من الاقتحام.
نستعينُ بحبلٍ، فزلّة القدم تعدّ كارثيةً إذا ما حصلت. ونبدأ الصعود باتجاه الفتحة الصخرية الوحيدة الموصلة للداخل.. علينا التمسك بحجارة البازلت جيداً، وعدم النظر للأسفل، إنها الأمتار الخطيرة والحاسمة، التي ستحدد إن كنا سنتمكن من الوصول إلى جبّ الهوة داخل القلعة، أم لا!.
يساعدنا الإصرار، والأصدقاء الذين غامروا معنا بالصعود لأعلى القلعة. ماذا لو كانت قصّة الأفاعي العملاقة التي تحرس الهوّة، صحيحة؟ تقول الجدّات إن قوة غريبة تسحب الزائرين إلى القعر، إذا ما اقتربوا من الحفرة، فالانهدامات في أرضية القلعة كثيرة، وتشكل انحدارات قاسية نحو الهوّة!.
إنها الهاوية، ويقول البعض فوهة بركان قديم، لكن المرجح، أن تلك الحفرة، تصل أسفل الجبل، لتتصل بسلسلة أنفاق توصل الدعم للقلعة أثناء الحصار. فيما يرى الباحث التاريخي، الدكتور عبد الوهاب أبو صالح، أن هناك أقنية مائية على عمق 80 متراً من فوّهة جب الهوّة.
تأخرُ التنقيب الأثري، ساهم في تفاقم القصص الشعبية والأساطير، حول جبّ الهوة، تلك الحكايا، تبدأ من العصر الهيلنستي، عندما بُنيت القلعة قبل الميلاد بمئة عام، وتستمر حتى اليوم، حيث يحكي الناس قصصاً غريبة عن الحفرة اللغز.
نكتشف في المكان حفرة أسطوانية، في الجهة المقابلة لجبّ الهوة، ونمشي بحذر في الدرب الضيق، فقوة الهواء تجعلك، تشعر بقوة مجهولة تدفعك نحو جبّ الهوة بإصرار!. فنتساءل: هل يمكن أن تكون الأسطورة صحيحة؟.
القلعة محاطة بأبراج مراقبة، لم يبقَ منها سوى الأطلال. لكن أرضياتها تنحدر بشدة نحو الحفرة العميقة.. فلا نستطيع الاقتراب أكثر. ويحذرنا بإصرار، صوتُ الرياح القوية في أعلى الجبل. كأنّ الريح متحالفةٌ مع القلعة اللغز، التي ترفض أن يكتشف حقيقتها أحد.
ندور في المكان، هناك بقايا غرفٍ من الحجارة، ومغاور مهدّمة، ربما كانت مخصصة لتخزين الطعام، الأبراج تشبكُ أصابعها بقوة، كي لا تسقط، وقد تغلبت فعلاً على عوامل الزمن، حتى الزلزال الأخير العام الماضي، لم يؤدِّ لانهيارها!.
تمتلىء جدران القلعة بتشكيلات تشبه الوجوه، ونشاهد فتحاتٍ شبيهة بالعيون الواسعة في جدران الأبراج. القلعة تراقب كل شيء، يقول أحد السكان. وفوق جبّ الهوة تماماً، يظهر الجدار على شكل بومةٍ بعيونٍ سوداء وفم فاغر، يحذر من خطر ما.
يحرص الناس على زيارة المكان يومياً، ومع الوقت، أصبحت القلعة رمزاً للمنطقة.. نسألهم إن كانوا يخافون الصعود لأعلى القلعة، وزيارة جبّ الهوّة عن قرب؟ فتختلف الإجابات.
البعض يقول إنه يكتفي بالجلوس على كتف الجبل، لأن الصعود لأعلى القلعة خطير، وقد يودي بصاحبه عند أول خطأ.. وآخرون يعتقدون أن حكايات جبّ الهوّة، مجرد أساطير درجت على ألسنة الناس، بسبب غياب التنقيب الأثري حتى الآن.
نحن على بعد 27 كيلومتراً إلى الشرق من مدينة حماة. والمساحات السهلية تتيح رؤية مدينة أبي الفداء، إذا كان الضباب خفيفاً، أما باتجاه الشرق، فلا يفصل القلعة عن مدينة سلمية سوى 5 كيلومترات، تنكشف بعدها البادية السورية بكاملها تقريباً.
على السور الشرقي للقلعة، تظهر مغارة رحمون، ذلك الشخص الذي تحول لأسطورة وسُميت المغارة باسمه. هنا كان يعتكف ويتوارى عن الأنظار عندما يصبح مطلوباً من السلطات قبل مئة عام تقريباً.. رحمون كان يساعد الفقراء من أموال الأغنياء، فيسرق لأجلهم، ثم يصعد إلى هنا حيث لا يصل إليه أحد!.
يشرح لنا الدكتور أبو صالح أهمية القلعة تاريخياً، ويؤكد أنها الوحيدة المبنية على فوّهة بركان خامد، ويشبّهها بالحارس الأمين للبادية السورية، حيث حرصت الجيوش على احتلالها في كل عصر.
الشمس تميل للمغيب، وهبوط الظلام، يزيد من غموض جبّ الهوة، وقلعة “الشميميس”، وأسرارها المخيفة. فنسرع بالنزول من الأعلى، بينما تتردد في الأصداء أصوات العقبان العائدة لفراخها في قمة الجبل، وتختلط مع أصوات طيور البوم، التي تبدأ الصيد بعد أن يحلّ الليل.
محاربٌ ضخمٌ، بمنكبينِ عريضين، ورأس مرفوع للأعلى، هكذا تبدو القلعة، ونحن نبتعدُ عنها رويداً، باتجاه المدينة، بينما الأسئلة والتكهنات، تلاحقنا من كل جانب!.