«ملف تشرين».. من أعالي الحنين.. أسعد فضة يتذكر ويجمع حصاد التجربة على بيادر الذاكرة
تشرين- علي الرّاعي:
“عرفتُ أسعد فضة عائداً من دراسته في مصر مُتهيّئاً لسفرٍ آخر، وتعميق أبعد لمعرفته المسرحية، ولكنني لا أعرف ما الذي كان أكثر إشراقاً واندفاعاً؛ دراسته أم تطلعاته، ففي ذلك اللقاء الأول دُهشت لحماسته، وهو يُسابقُ الحلم في شوقه للبناء ودعم كلِّ بادرة للإبداع.
فيما بعد، ومنذ أواسط السبعينيات أتيحت لنا لقاءات مُتكررة، فلمست هذا النزوع الخلاق لكي يحلّ المُتخيل الجميل محل الواقع الهزيل، ولكي يتخطّى الراهن إلى المُحتمل.”
ذلك بعض ما قرأ أدونيس في الأكثر شغلاً بالمسرح السوري الُمُعاصر منذ بدايته، وأقصد بذلك الفنان أسعد فضة، وشهادة أدونيس السابقة كانت خلال تكريم مؤسس المعهد العالي للفنون المسرحية سنة 2005 ، وتسمية قاعة مسرح دار الأسد للثقافة في اللاذقية باسم “قاعة مسرح أسعد فضة”.
أعالي الحنين
لكن حتى سنة 2005 مناسبة التكريم السابقة؛ كانت حياة أسعد فضة قد أصبحت مُتخمة بتجربة إنسانية وفنية هائلة، ما جعله اليوم يقف في أعالي الحنين – بالإذن من صديقنا الشاعر صقر عليشي – وينظر بعيداً في سهوب الذاكرة، ويُلملم كل تلك الغلال ويضعها في كتابٍ يتذكرُ فيه كل تلك المسيرة الطويلة وبواعثها وانعطافاتها وأجمل أيام العمر فيها وأزهاها، وأحزنها بكل تأكيد، وذلك في كتاب سماه “إطلالة على الذاكرة” الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة.
وفي هذه الإطلالة على الذاكرة، يعود أسعد فضة إلى الربع الأخير من القرن العشرين، إلى “أبو السعود” كما يروي عن نفسه، وينظر إلى ذلك الطفل الذي تشدّه والدته صوب المدرسة، وهي تغريه في الذهاب إلى مدرسة “بكسا”، تلك القرية الريفية التي يُصوّرها وكأنه يحمل كاميرا، القرية الناعسة بين الجبال والمطلة على بحر اللاذقية، والتي يُمكن الانتقال منها إلى المدينة سيراً على الأقدام. في هذه الجغرافيا الساحرة بين مدينة وقرية، سيقضي أسعد فضة طفولته حتى مراهقته الأولى، تلك الجغرافيا التي ستزوده بملايين الصور عن شخصيات وفلاحين ومدرسين وحياة اجتماعية وسياسية تموج بالحيوية بين مرفأ ومدرسة، وأسرة ممتدة، ومقاهٍ ودور سينما حتى سفره إلى مصر خلال الوحدة بين البلدين سورية ومصر، والصعوبات التي كانت تعترضه، ثم تُفرج هكذا بفتح طاقات الفرج غير المتوقعة التي تأتي كمن يسند رأسه في حضن أم، وفي هذه المسيرة المُفعمة بالتجارب الإنسانية والفنية، كثيراً – على ما يروي ويتذكر – ما كانت طاقات الفرج تُفتح له، ليست طاقات وإنما أبواب تُفتح على مصارعها، وهو ما يُفسره بكثرة المهمات الإدارية التي تسلمها في المسرح على وجه الخصوص، والتي لم تكن على حساب شغله الفني الذي اقتصر مؤخراً على الدراما التلفزيونية وجسد خلالها عشرات الشخصيات الدرامية.
إطلالة الذاكرة
في “إطلالة على الذاكرة” لا يتوقف أسعد فضة طويلاً في بيادر الطفولة، وإنما يوجزها في مشاهد تبدو حارة في الذاكرة وشهية لاسيما في استحضاره شخصيات ظريفة وطريفة في “بكسا” الريفية، والتي يبدو هي من أشعلت لديه هذا السعي لتشخيصهم لاسيما في حديثه عنهم حتى اليوم، فشخصية “الخراط” أو خراط الضيعة لاتزال تُدغدغ ذاكرته في مبالغاتها بحكاياتها الطريفة، و”القاموع” الرجل القصير المتأهب دائماً للمشاجرات، وكذلك ” العيّاط” الذي كان يُلقب براديو القرية. شخصيات كثيرة سيُجسدها أسعد فضة، لكن هذه المرة ليس على خشبة المسرح، ولا في فيلم سينمائي، أو مسلسل تلفزيوني، وإنما عن طريق السرد، وإن لم يتخلَّ عن موضوع “الحكواتية” التي برع فيها في عشرات الأعمال المسرحية.
يحكي أسعد فضة عن مرحلة الدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة، ومعه كان كل من علي عقلة عرسان وخضر الشعّار، الأول الذي انشغل باتحاد الكتاب العرب، والثاني الذي شغلته الإذاعة السورية، وكان نصيبه هو؛ المسرح، في هذا “المعبد” سيكون لأسعد فضة الكثير من “قصب السبق” حيث سيُردد كلمة “الأول” في الكثير من يومياته، وهو يتذكر، جهوده في تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية وإقناع وزيرة الثقافة حينها بأهمية هذا المشروع الثقافي الكبير، هذا المعهد الذي سيُدرّس فيه مقرر التمثيل، وأولى الدفعات المُتخرجة؛ هي اليوم تُشكل أحد سدنة الدراما السورية كالفنان أيمن زيدان الذي سيصير صديقه وشريكه في الكثير من الأعمال المسرحية والتلفزيونية التي أنجزها من موقعه كمخرج وممثل ونقيب الفنانين، ومدير المسارح والموسيقا لزمنٍ طويل.
وفي حكاية “الأول” أيضاً؛ كان لأسعد فضة التجربة الأولى في تجسيد أول نص مسرحي محلي، وكان في ذلك مُغامرة، وهو المُطلع على نصوص المسرح العالمي، وجسّد الكثير من النصوص المسرحية العالمية بعد أن جعل الكثير منها يُقارب البيئة المحلية.
وكان النص المحلي من الندرة بمكان لكنه وجد في “أيام سلمون” لصدقي إسماعيل ما يُمكن أن يعدّه أول تجسيد لنص سوري خلال تجربته المسرحية الطويلة، ومن رائعة “جوجول” أعدّ أول عمل مسرحي مونودرامي “يوميات مجنون” في العالم العربي، عُرضت في مهرجان دمشق المسرحي سنة 1976، وهي من تمثيل أسعد فضة، وترك قيادة الإخراج لصديقه فواز الساجر الذي كان أحد طلابه في الدفعة الأولى مع أيمن زيدان، مهرجان دمشق المسرحي الذي كان مهّد إليه بفكرة “المواسم المسرحية” في سعيه لإقناع المسؤولين في الثقافة بأهميتها، وفي هذه المهرجانات المسرحية اشتغل أسعد فضة ولأول مرة أيضاً بفكرة المسرح التجريبي، وذلك في مسرحية من تأليفه وإخراجه، وهي مسرحية “حكاية بلا نهاية”، ويُلخص فكرة التجريب في المسرح؛ بالبحث لإيجاد وسائل تعبير جديدة ومُبتكرة في العمل المسرحي للتواصل مع الجمهور وإشراكه في العملية كعنصر مُهم في العرض المسرحي، هذه العملية التي لا تتجزأ، ولابد أن تتحقق في جميع مقومات العرض المسرحي: في النص، والإخراج، والتمثيل، و(السينوغرافيا)، والديكور، والملابس، والإضاءة، وفي كل ما له علاقة بالعرض المسرحي، وليس فقط في بعض عناصره. هذا العمل الذي قدمتّه فرقة الديوك المؤلفة من شمس النهار (مها الصالح)، وشكى بكى (أيمن زيدان)، وعيّاط (زيناتي قدسيّة)، والخلد (نجاح سفكوني)، وعصفور (تيسير السعدي)، وهي عبارة عن قصيدة هجائية مسرحية للواقع الذي يعيشه الإنسان بشكلٍ عام. الفنانة مها الصالح التي ستصير زوجته، وشريكته ليس في الحياة فقط، وإنما في الكثير من الأعمال الفنية، كما ستنجب له ابنتهما الوحيدة (رامه).
فصول وأبواب
يُقسم أسعد فضة مذكراته إلى فصول، أو أبواب، ويختار لها عناوين، كثيراً ما درجت مُقاربتها في الحكايا، أو خلال روي الحكايات، فمن الأبواب التي فصل من خلالها بين مواسم الذاكرة:مرّت الأيام حُبلى بالأحلام، ومرّت الأيام بأمان وسلام، ومرّت الأيام، وعلى أجنحة الريح ننام، وأخيراً نبتهج بحسن الختام. أردت ذكر هذه العناوين التي أطلقها فضة على أبواب كتابه، لنُشير إلى أهمية الحكاية في المسرح، هذه الحكاية التي جعلت من كتابه شائقاً، فرغم حديثه الطويل عن المسرح الذي من خلاله قدّم بحثاً مُطولاً أقرب إلى تاريخ المسرح المُعاصر في سورية، وهو ما قد يهم بالدرجة الأولى المختصين في المسرح، غير أسلوب الحكاية التقليدي الذي اتبعه تصاعدياً من البدايات وحتى المرافئ الأخيرة؛ يجعل المتلقي – أياً كان توجهه في الحياة – ينجذب لمتابعة الحكاية، وهي هنا ليست أي حكاية، هي حكاية نجم سوري شغل المشهد الثقافي لأكثر من نصف قرن. وأسعد فضة في سقايته لأعشاب الذاكرة، سيكتشف مُتلقي حكايته؛ إنه لم يترك فناً من الفنون الدرامية لم يكن له تجربته الطويلة فيه، سواء جاء ذلك تمثيلاً أم إخراجاً، وحتى كتابةً وتأليفاً، ومن خلال الببلوغرافيا التي يُثبتها في نهاية الكتاب؛ فهذا الرجل لديه في المسرح إخراجاً فقط ما يُقارب من خمس وعشرين مسرحية داخل سورية فقط، فيما أخرج ثلاث مسرحيات خارجها، وقام تمثيلاً بتجسيد شخصيات لاثني عشر عرضاً مسرحياً، فيما قام بالتمثيل في أربعة وستين مسلسلاً، وفي الإذاعة والسينما كتابةً وتمثيلاً ثمانية أفلام ومسلسل إذاعي، وتسلم عشرات الإدارات في وزارة الثقافة، كل ذلك كان مُقابله الكثير من الجوائز المُهمة وعشرات التكريمات.
ذاكرة وطن
كتاب إطلالة على الذاكرة، وإن كان يندرج في باب كتب المذكرات، غير أن الأمر عندما يتعلق بذاكرة بحجم ذاكرة الفنان أسعد فضة؛ تصير أقرب إلى ذاكرة وطن من مختلف النواحي الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية، وإن كان البارز فيها الثقافة الذي يُحاول أيضاً أن يُسلط من خلالها الضوء الساطع على الحركة الفنية السورية: مسرح وسينما وإذاعة وتلفزيون على مدى أكثر من خمسين من السنين.
وإذا كُنا بدأنا حديثنا عن ذكريات أسعد فضة بمقتطف من شهادة لأدونيس خلال تكريمه في اللاذقية المكان الأقرب لروحه، نختتم أيضاً بشهادة لوليد إخلاصي حيث يقول: التحق أسعد فضة بموكب الفن السوري المُعاصر؛ في الزمن الذي كان فيه المسرح يُحاول أن يُلملم أوراقه المُتناثرة ليجمعها في كتاب ينضم إلى موسوعة الفنون السورية، وكان شباب أسعد فضة المتوقد بالحيوية ونشوة الفن قد أسفر عن تألق حضوره في المسرحيات الأولى، وبذلك يلعب دوراً لافتاً في بناء المسرح الحديث، مما سيحفظ له أقران كانوا معه شرف تمثيل الدراما بشكلٍ لن يغيب عن الذاكرة.
أقرأ أيضاً:
«ملف تشرين».. في “رياح الخماسين”.. أسعد فضة.. التمثيل باعتباره دفاعاً عن الذات