عن عنصرية الألوان.. لطخاتُ السواد المقهورة أمام عجرفة البياض الماحق!

تشرين- جواد ديوب:

ليت المسألة كانت جماليةً شعريةً أو مُتعويّةً غزليّةً كما يختزنها قول الشاعر دوقلة المنبجيّ:
“فالوجهُ مثل الصبح مُبيضُّ/ والشعر مثل الليل مسودُّ”
“ضِدان لمّا استُجمِعا حَسُنَا/ والضدُّ يُظهِرُ حُسْنَهُ الضِدُّ”
لكنّا اكتفينا بالأبعاد الجمالية التي يختزنها اللون الأبيض وصِنوُهُ اللدود الأسود. أو كنّا اكتفينا بعدّهما قطبي كونٍ لونيٍّ تتماوج فيه نفوسنا وخيالاتنا وأطيافُنا بأريحية الطبيعة ذاتها.. لكنهما لونان إشكاليان في دلالاتهما المعرفية وإحالاتهما التاريخية وحيثياتهما اليومية التي شكّلت وتشكّلت من معتقداتٍ سادتْ عبر قرون عند كل الأعراق.
لأن المسألة تتجاوز إحساسنا الأوليّ السطحي حين نرى ما نراه في البياض أو حين لا نرى ما لا يُرى في السواد. كأنّ كل لونٍ منهما مفهومٌ أو مصطلحُ أكثر مما هو صفةٌ للشيء أو اسمٌ له.
هكذا يصبح الأبيض أكثر من كونه لوناً مثلاً لألبسة ملائكة الرحمة في تطبيبهم لجراحنا، وأكثر من كونه إحالة لثوب العروس في زفافها كرمزٍ لعفّتها وطهارتها، أو لوناً لكفن الميت في جنازته كرمزٍ لأهمية نقائه عند ملاقاة الله، وأبعدَ من كونه راية استسلامٍ في الحروب التي تأكل أبناءَها.
ويصبح الأسود -المذموم في العرف الشعبيّ- لوناً للغموض اللذيذ والطمأنينة التي تختزنُ الهدوء وتجعلنا نعتاد ألّا نخافَ العتمة لمجرّد أنها تُخفي أكثر مما تُبدي، وتُبطِنُ أعمقَ مما تُظهِرُ.
هكذا يتحوّل اللونان إلى لغةٍ خاصةٍ برمزيتها الجديدة إذ ليس من الضروري أو اللصيق أن نصِفَ الأبيضَ وكل ما هو أبيض بأنه الأجمل والأنقى والأطهر أو بأنه “أبيضُ مثل الحقيقة، مثل ضوء النهار الذي أنار الخلق وكشف جوهر الكائنات الأبيض” بحسب اقتباس الباحث ابراهيم محمود من الكاتب الأمريكي الأسود “كريستوفر بيفريبي” في تنويهٍ مهمّ إلى تحوّلات اللون الأبيض إلى علامةٍ للعنصرية حيث “الأبيضُ سيّدٌ حرٌّ أبداً والأسود عبدٌ مُقيّدٌ أبداً”.

عنصرية عابرة للقارات!
ولعلّ من هذه النقطة الحرجة ومما يحدث في المجتمع الأمريكي حالياً وسباق الرئاسة راهناً وما يحصل مع كل الأعراق التي تعتبرها آلة الاضطهاد الأمريكية أعراقاً تابعة لها… يصحّ أن نُذكِّر بما قاله يوماً الراحل ممدوح عدوان في استحضارنا لعلاقتنا مع الغير باعتباره الآخر النقيض الأدنى عرقاً وقيمةً تاريخيةً إذ يقول في كتابه “دفاعاً عن الجنون”:
“حين تقرّرُ موقفك ضد التمييز العنصري، وتقرّر أنك كتقدّمي تؤيد حركة السود في العالم، فهذا يعني أن عليك أن تعيد النظر في مجموعة من القيم الراسخة عبر التاريخ والمتسللة إلى لغتك وأمثالك الشعبية ومن ثم إلى القيم المرتبطة بالعنصرية، فالتاريخ الذي صنعه أبيض فرَزَ قيماً بيضاء معادية للسود… ولهذا فإن تعابير مثل (سوّد الله وجهك) و(ابن آدم أسود راس) واصطلاحات مثل سوداوي ومرادفاتها في الرسم… يجب أن تزول فوراً وإلا لكان تأييدك للسود سطحياً ولم يصل إلى أعماق وعيك وضميرك. أي إنك لم تحقق اغتسالك الثقافي من رسوبات العنصرية”.
ومن هذا التحليل العميق المبطّن بالسخرية اللمّاحة للراحل عدوان ندخل إلى عوالم الروائي الإفريقي- الأمريكي “بول بيتي” (الحائز على جائزة بوكر العالمية في روايته “الخائن” منشورات دار الجمل) حيث نجد أيضاً روحاً تهويميّةً جارفةً تسخرُ من كل شيء بنكهة قاسية جعلت بطل الرواية – وهو في قاعة المحكمة بتهمة محاولة إعادة التمييز العنصري بين البيض والملوّنين الموجودين في ولايته- ينفلتُ بإشراقات تهكّم طالتْ حتى وجودَه ذاته والذي لا يعدو كونه “حرباء إفريقية وُضِعتْ في قفص اتهامٍ لحيوانات كبيرة” يُشار إليها من قبل قاضٍ نكِدٍ يشبه طفلاً متعجرفاً يصرخ مهلّلاً:
“هي ذي أخيراً” وكأنه اكتشف كائناً غريباً يستحق أن يُعرَضَ في متحفٍ طبيعيّ. بل يصبح ذاك القاضي/ممثلُ الدستور الأمريكي بشعاره الفجّ “العدالة للجميع تحت القانون” يصبح “حرباءَ بقدمين نحيلتين تُحكِمان الإمساكَ بأوراق العدل بحذر؛ وبهدوءٍ تقضِمُ أوراقَ الباطل”!.

لطخات السواد المقهورة!
كما سنجد حزناً متغلغلاً في طيّات الأحدوثات التي رواها لنا “بيتي”، ألماً محفوراً في روح “كائنات” الرواية مثل جُرحٍ يَنزُّ كلما مرّت في بالهم موسيقا جاز موجعة تجعلهم يختبئون خلف أقنعة البياض وكأنَّ الصفةَ “أسود” ملطخةٌ بما فيه الكفاية لتجعلهم، وبمجرّد نُطْقها، يصبحون فعلاً (زنوجاً) حتى لو شعروا بأن تنصيبَ “الرجل الأسود” يوماً ما كرئيس لأمريكا (أو الفوز المحتمل فقط لكامالا هاريس) هو نوع من تسديد دينٍ قديم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية تجاه السود”.
لكنْ: ماذا عن (الملوَّنين الآخرين) الأمريكيين الأصليين؟ واليابانيين؟ والعرب المهاجرين والمكسيكيين؟ والفقراء؟ والغابات و الماء و الهواء والفلسطينيين؟ متى ستُسددُ أمريكا ديونُ كل هؤلاء؟!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار