“وي، إذاً لست بإفرنجي” عن “دون كيخوته دي لامنشا وغابة الحق وزينب” وغيرها!!
تشرين- علي الرّاعي:
على ما يُروى عن ميلان كونديرا قوله: “منذ دون كيشوت، بدأت الرواية الأوروبية رحلتها الطويلة، وكشفت عن بعد جديد للوجود البشري: البعد الذي يتمازج فيه الحلم مع الواقع، حيث تصبح حياة الإنسان رحلة بحث دائمة عن معنى وسط العالم الملتبس.”.. وكانت الرواية السابقة الذكر قد صدرت الرواية منذ (416) سنة حيث صدر جزؤها الأول سنة (1605)، ومن يومها فقد عدّها الكثير من النقاد على أنها: “الحجر الأول في بنيان الرواية الحديثة”، بل وفاصلاً ما بين عصرين، عصر الحكايات التي تروى للتسلية وليس شيئاً أكثر، و”فنّ الرواية”.
تعد رواية “دون كيخوته دي لامنشا ” فاصلاً ما بين عصرين، عصر الحكايات التي تروى للتسلية وفنّ الرواية
البداية من أسبانيا
إذاً؛ يكاد يجمع النقاد في العالم على أنّ رواية “دون كيخوته دي لامنشا “، – وهذا اسمها كاملاً- لمؤلفها الإسباني الشهير “ميغيل دي ثربانتس”، هي الراوية الأولى، أو هي– على الأقل– كانت الأقدم في العالم التي يمكن أن تنطبق عليها شروط الرواية الفنية كما صارت معروفة في مشارق الأرض ومغاربها..
“دون كيخوته دي لامنشا” التي ألهمت ولا تزال تُلهم الكثير من المبدعين على اختلاف مشاربهم الإبداعية بشكلٍ عام، وكتّاب الرواية بشكلٍ خاص. كما لا تزال الرواية الأكثر قراءة وترجمة وتوزيعاً في العالم.
في العالم العربي أيضاً ثمة أمر ما، يشدّ بعض المثقفين العرب إلى البحث عن المسودّات الأولى، أو الإرهاصات لبعض الأجناس الإبداعية، ولاسيما في الأدب، لدرجة تأخذ أحياناً تيمة النزعة، وكأنّ أمر تلك المسودّات، أو الإرهاصات هو ما يُعطي الشرعية لهذا الجنس الإبداعي، أو ذاك، ولأنّ الأمر يأخذ تيمة النزعة كما أسلفنا، تصير مسألة من كان له قصب السبق، تشكّلُ هاجساً لدى الكثير من هؤلاء المثقفين، فحتى اليوم- على سبيل المثال- لم يصل العرب لحسم من كان له قصب السبق في إنتاج الرواية العربية الأولى، هل هم المصريون، أم السوريون، أم اللبنانيون ؟!
سجال طويل حول الأسبقية في الريادة بين روايتي “زينب وغابة الحق” حتى حسمها سيد البحراوي
عن الرواية الأولى
وإذا كان النقاد، وكذلك الروائيون في العالم قد اتفقوا على أنّ “دون كيخوته دي لامنشا” هي الرواية الفنية الأولى المكتملة لمعايير الرواية عالمياً، غير أن العرب – وكعادتهم على عدم الاتفاق أو الاتفاق على عدم الاتفاق – بقوا مختلفين على الرواية الأولى عربياً، ذلك أنها كانت “معركة” أقرب لأن تكون ضارية، وحامية الوطيس، تلك التي نشبت أوارها خلال مهرجان العجيلي الثالث للرواية العربية، الذي كانت تُقيمه ذات حين من ازدهار ثقافي ليس بعيداً مديرية الثقافة في محافظة الرقة، وكان أطراف تلك “المعركة” التي كادت أن تكون حامية الوطيس، مثقفون سوريون ومصريون، وأما أسباب نشوبها، فكانت حول من كان له قصب السبق في سرد الرواية العربية الأولى، ولمن كانت الأسبقية والريادة في إيجادها..؟!
رواية “وي، إذاً لست بإفرنجي” لخليل الخوري أقدم رواية عربية
سورية في مصر
وفي تلك “المعركة” التي كاد أن يُحمى وطيسها، كان قد تضامن خلال ذلك الجدال الحاد الذي اندلع على حين مداخلة، بعض المصريين والمغاربة مع السوريين، في أن الرواية الأولى، وبالشكل الذي نعرفه كانت سورية، لكن وبعد احتدامٍ في سرد التواريخ من أن محمد حسنين هيكل – طبعاً غير السياسي والصحفي المعروف – صاحب رواية “زينب” المصرية تارةً، وطوراً فرانسيس مراش صاحب رواية “غابة الحق” السورية قد فعلها أول مرة، كان أن تمّ ما يُشبه الوصول إلى حلَّ توافقي، أو الاتفاق الضمني، على أنّ من كتب الرواية الأولى في العالم العربي هي السورية زينب فواز، لكنها ويا للدهشة والطرافة كانت تعيشُ في مصر..!
غير أن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحل التوافقي أي بالأسبقية السورية، لكن الولادة على الأرض المصرية، ذلك أنه منذ مدة ليست بعيدة، فجر الأديب والناقد المصري سيّد البحراوي ما يشبه “القنبلة” الدخانية في أوساط المثقفين المصريين الذين لديهم عقدة الريادة، معلناّ اكتشافه رواية “وي، إذاً لست بإفرنجي” وهي رواية صادرة في بلاد الشام، يؤكد بما يُشبه الجزم أنها أقدم من كلّ ما سبق ذكره سورياً ومصرياً، وعندما سألته عن سر هذا الاكتشاف – ذات حوارٍ معه – قال: الحقيقة أنني لست من اكتشفها، بل اكتشفها أحد طلابي، وهذه الرواية الصادرة عام 1856، يتحقق فيها الشرط الروائي، وبالتأكيد هي أفضل من رواية “زينب” لمحمد حسنين هيكل، وهنا من نافل القول والتذكير أن الروائي المقصود هنا هو غير الصحفي والسياسي المصري المعروف بذات الاسم..!
وي، إذاً لست بإفرنجي
ورواية “وي، إذاً لست بإفرنجي” التي كتبها في ذلك الزمان خليل الخوري، وحققها شربل داغر سنة 2007، صدرت في بيروت عن دار الفاربي على أنها الرواية العربية الأولى. وهنا يصر بعض النقاد والروائيين على اعتبار هذه الرواية ومنهم المصري سيد البحراوي على أنها رواية سورية، وذلك لسببين: الأول: لأنه في ذلك التاريخ لم يكن هناك ما يُسمى “دولة لبنان اليوم” الذي يُشكلُ كياناً مستقلاً عن وطنه الأم سورية، والدليل هو السبب الثاني: إن أحداث الرواية تجري في مدينة حلب السورية.
في كل الأحوال يختلف المثقفون والنقاد العرب على مبتدى الرواية في العالم العربي الذي نشأ في مهد ثلاث مدنٍ عربية هي على التوالي تاريخياً: “وي لست بأفرنجي” في بيروت، و”غابة الحق” في حلب، و “زينب” في القاهرة. وثلاثتها كانت أواخر القرن التاسع عشر، غير أنه رغم كلّ هذه القدامة في السرد الروائي، فإنّ الروايات الثلاث – للأسف – لم تلهم المبدعين في مصر ولا في سورية، ولا في أي منطقة في العالم العربي، أو حتى في العالم، كما فعلت رواية “دون كيخوته دي لامنشا” الإسبانية منذ أكثر من خمسمئة سنة، وتلك الروايات الثلاث أيضاً غير معروفة اليوم – وربما القليل من يسمع بها – طبعاً باستثناء أولئك المدفوعين بأمر ودوافع التأصيل، والبحث عن “قصب السبق” والريادة والتأصيل..!
اعتبرت رواية (وي، لستُ بإفرنجي) سورية خالصة لسببين
كالناقد المصري المعروف جابر عصفور، الذي يقول في مقدمته لرواية “غابة الحق” إصدار جريدة الثورة السورية سنة 2002، يقول الدكتور عصفور: لا أذكر على وجه التحديد متى عرفت رواية “غابة الحق” للرائد فرنسيس فتح الله مراش ( 1835 – 1874 ) وهي الرواية التي نُشرت للمرة الأولى في حلب سنة 1865، فكانت الرواية العربية الأولى التي نعرفها في العصر الحديث .” وهذا “اعتراف” مصري هام جداً، وقلّ أن يحدث..!!
أمر قصب السبق، والبحث عن “الرائد الأول” أو الأصل الأول لم يقتصر على الرواية وحدها، ففي الشعر أيضاً دارت رحى معارك شرسة، ولزمن طويل، وإلى اليوم، حول أيهما كان له شرف السبق والريادة في استخدام التفعيلة بالقصيدة، بدر شاكر السيّاب، أم نازك الملائكة، أم فدوى طوقان؟؟!! ذلك أنه لم يكن ثمة أحد من رعاة الشعر ومؤرخيه مع السيّاب أو الملائكة أثناء كتابة الأول قصيدة “أزهار” وكتابة الثانية لقصيدة “كوليرا”سنة 1947، وغير ذلك من العلامات التي من شأنها أن “تحسم” جدل من سبق من ؟!
غير أنه بعد أن صارت تلك الفنون والإبداعات السابقة، من الأجناس أو الإبداعات البائسة والمنقرضة، أو في طريقها إلى هذا المصير، نتساءل الآن: من كان له قصب السبق في إنتاج أول مسلسل: المصريون أم السوريون، أم الأتراك، أم المكسيكيون؟!! باعتبار أنّ الدراما التلفزيونية، هي اليوم أم الفنون والأجناس الإبداعية وأبوها، وجدها أيضاً..!!