في بوتقةٍ واحدةٍ… فنانون يرسمون مآسٍ على هيئة بورتريهات فنيّة
تشرين- لبنى شاكر:
تحتل الوجوه مساحاتٍ واسعة في المعارض الفنيّة، ليس لأنها كانت ولا تزال مُنعكساً أول لفواجع الأعوام الفائتة، فحسب، إنما لأنها فرضت نفسها بطريقةٍ ما، فما أصبح فجأةً أمراً واقعاً، فعل فِعله في الوجوه الذاهلة أمام الموت العبثي وهول الحدث، ومع مرور الزمن وتعدد أشكال المأساة، التقت جميعها في بوتقةٍ واحدةٍ، متعبةً ولاهثةً خلف زمنٍ يدور على نفسه، أمّا كيف تعاطى معها الفنانون، فهو بحثٌ تصعب الإحاطة به، مع تعدد الأساليب والرؤى والغايات، لكننا سنحاول في المُتاح لنا، الحديث عن بعضٍ مما قُدِّم، ولا سيما ما اشتغل عليه أصحابه في عدة معارض، كمشروعٍ قائمٍ بذاته.
حالة تشكيلية
الفنانة لينا رزق وجدت في رسم الوجوه حالةً تشكيليةً يختبر فيها الفنان، مزاجاً عاماً يمرّ في مساحته الخاصة، عبر تفاصيل وحكايات يقولها وتقول نفسها، في مونولوج حياتي وصدى لمشوار الإنسان المؤلم معظم الأحيان، لذلك اختارت أن تضع وجوهها في حالات مواجهة مع القدر، وهي تدرك أن ملايين الانفعالات قادرة على صنع ما يقابلها من تشكيلاتٍ لا نهائية، فرسمت رؤوساً شبه مقطوعة، مُتراكبة فوق بعضها، بألوان ترابيةٍ شاحبة.
التعاطي مع رسم الوجوه كبحثٍ يستوعب مُختلف النتائج، كان واضحاً عند الفنان محي الدين الحمصي أيضاً، أو كما يصفها رحلة اكتشافٍ في إنسان الفوضى اليومية، فلا حدود للوجوه في لوحاته، ولا قدرة لها على الثبات، فهي تتنقل في زوايا اللوحة، وبلون أبيض طاغ إشارة إلى سلام ما، بعيداً عن الأحمر كرمزٍ لإعادة إنتاج البشاعة، مُؤمناً بأن مستقبلاً أفضل ينتظر الإنسان السوري رغم بؤس واقعه، ورغم ملامح الخيبة والحزن في بورتريهاته.
في تجربة الفنان عصام المأمون اشتغالٌ على وجوهٍ تعبيرية مُكسّرة، مبنيةٍ بطريقةٍ تشكيليةٍ غير تقليدية
وجوه مستديرة
في معارض الفنان فؤاد دحدوح تظهر وجوهٌ مستديرة مدهوشة ومشوّهة أحياناً، يُوزّعها بوضعيات تعكس حالات إنسانية متأرجحة بين الخوف والخواء والحزن، تقترب من اختناق الحصار، تؤديها هيئات إنسانيّة مؤطرة أو مركونة في فراغ رحب ومفتوح، كل ذلك مشغول في تداخلات لونية مشبعة بالضوء، ويبدو أن الطريقة التي اختارها التشكيلي تؤمن باحتمال الألم لجمالية ما، تلك التي نشعر بها بعد بكاء مرير أو حينما نعود لممارسة حياتنا بعد فقدان أحدهم.
أما في تجربة الفنان عصام المأمون، فنجد اشتغالاً على وجوهٍ تعبيرية مُكسّرة، مبنية بطريقة تشكيلية غير تقليدية، ومع أن ملامح بعضها مشوهة لكنها لا تذهب نحو البشاعة بل تقدم لنا أناساً طيبين، مظلومين ومرهقين، بحيث لا ينفصل ذلك عما نراه حولنا، قليلٌ من الضحكات والابتسامات، وكثيرٌ من الحزانى، لذلك تتشابه شخوص المأمون بالمُجمل، وتبدو مرهونة بالتيار العام، غير قادرة على الخروج عن النسق الجماعي، يحكمها همٌ واحد، وينتظرها مصيرٌ مشترك.
يبحث الفنان وفيق بوشي عن وجهٍ غني بالتفاصيل، ويُؤمن أن بعض الوجوه تدعوه لرسمها وتدفعه لمزيدٍ من العمل في اللوحة
إغواء الوجوه
في البورتريهات، يبحث الفنان وفيق بوشي عن وجهٍ غني بالتفاصيل، قابلٍ لتشريح ما تحت الجلد، وكما يشرح، لا يُشترط أن يكون هذا في وجوه كبار السن، في التجاعيد والانحناءات، إذ إن بعض الوجوه تدعوه لرسمها، بل تدفعه لمزيدٍ من العمل في اللوحة، وهو يستمتع في بذل جهدٍ كبير في عمله، في حين يُصادف أحياناً وجهاً جميلاً لكنه غير قابلٍ للرسم، هذا يرتبط برأيه بشخصيةٍ غامضة ومُتقلبة، ومع الخبرة أصبح أكثر قدرةً على الحكم والاختيار.
الفنانة نهى جبارة تنقّلت ما بين التركيز على الوجه وإبراز جزئيات منه، وتماهي الجسد مع غيره حتى التلاشي، إشارة إلى غياب الفرد بذاته وخضوعه لتيار المجموع، حتى إن السمات الخاصة لكل منا باتت جزءاً مما يراه المجتمع، فأصبحنا أنماطاً ونسخاً مكررة في الأفكار والرؤى والشكل، إلى أن غابت روح الفرد الأصيلة في تزاحم العام، فكان خيارها رسم الوجوه كحالات إنسانية صامتة بعيداً عن كونها لرجل أو امرأة، كذلك قدّمت وجهاً مكرراً بألوان مختلفة، كما تتبدل المواقف والمصالح.
استوحت الفنانة لينا الكاتب بورتريهاتها مما نعيشه من مُكابداتٍ ومآسٍ ومدى قدرتنا على التحمّل
في مواجهة الفقد
من جهتها الفنانة لينا الكاتب استوحت بورتريهاتها مما نعيشه من مُكابداتٍ ومآسٍ، فاقت قدرتنا على التحمّل، حتى أصبح الخوف والفزع وفقدان الرغبة في أي شيء، حالةً شبه عامة، أحالتنا إلى عالقين فيما أسمته صندوقاً من زجاج، ومما رسمته شخصيات تبدو مبهورة بالضوء القادم من الخارج، لكنها تخشى المواجهة، وفقدان الطمأنينة مهما كانت مُزيفة، لذلك هي ثابتة، فقدت قدرتها على التفاعل، بانتظار خلاصٍ ما، يأتيها بلا إرادةٍ أو تحرّكٍ منها، وبعضها تتوارى خلف المُتوارث والتقليدي، خشية أن تجد نفسها في نزاعٍ محسوم لصالح فكرٍ جديد.
يُمكننا أيضاً الإشارة إلى تجربة الفنان ربيع البعيني الذي رسم وجهه محاولاً -كما قال-انتقاد نفسه، بين الرؤية الحقيقية، وتلك غير الواقعية، بين الصحيح والخاطئ، سواء في هذا الظرف الذي نعيشه أو في غيره، كذلك حدث أن رسم ثلاثة وجوه في اليوم نفسه، الأول كان للراحل الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، حين علم بنبأ رحيله، عبر لطشات عريضة على أرضية سوداء، ليأتي الثاني تعبيرياً كنوع من أنواع الانكسار الرجولي في فترة الحرب، وجاء الثالث بينهما، عبارة عن خطٍ فقط.