العقل المجرد أم النخاع الشّوكي؟
تشرين-ادريس هاني:
تقاليد العقل القاتلة تجعله في أسر أُطر ونماذج التفكير، وها هنا لا نحتاج كما في فيلم(Lucy-(2014) من إخراج لوك بيسون وبطولة سكارليت جوهانسون.
أجل، لا نحتاج إلى مادة كيميائية جديرة بجعل الدماغ يضاعف من نشاطه، ذلك لأنّ العقل- وتلك آفة كلّ العصور، بل وفي عصرنا- بات اللاّمعقول يكتسب صفة الموقف العقلي، يعيش حالة خصاء مزمن. ويمكن أن نزيد من نشاط العقل فقط بتغيير أنماط التفكير، فالعقل يكتسب مهارته بالتمرين والتغيير.
إنّ الإرادة قضية مهمّة لتعزيز الوظيفة الأمثل للعقل، لأنّ تداني فعاليته كادت تحرف وظيفته إلى وظيفة النخاع الشّوكي، وهي تماماً الطريقة التي يعمل عليها الـ«شات جي بي تي» مع الفارق، أنّ النخاع الشوكي يدخل ضمن الجهاز العصبي اللاّإرادي ولا يحتاج إلى أوامر أو إعادة برمجة.
لا يستقل الشات جي بي تي بأي نشاط، بل هو مقيد بمخزون معلومات يضعها الإنسان، ولكنه مزود بخوارزميات هي الأخرى محاكاة لأنماط تفكيرنا المنضبط بقواعد. هذا الجزء من نشاط الدماغ ليس هو كلّ نشاط العقل، يُؤمِّن الدماغ بما يشكل البنية التحتية لما يجب أن ينهض عليه التعقُّل الخلاّق.
في حضارتنا التي أعتبرها ترابية: جمود وتكرار وتعمير، بخلاف الحضارة النارية المنشودة، هي حضارة التساؤلات الحارقة التي تجعل وظيفة الكائن في الوجود في حالة حراك لا يتوقّف. بالفعل بلغت الباب المسدود. وهذه الحضارة إذاً لا تحتاج إلى العقل بقدر ما تحتاج إلى النخاع الشوكي.
يستلهم العقل الفاعل من أنماط التفكير الجامدة التي يكرسها العقل المنتظم، ما يجعله ميّالاً للجمود والدّعة العقلية. إنّ طريقة التفكير باتت كلبية، بالمعنى الذي يجعلها حالة بافلوفية تقوم على رد الشرط. يجعل النّظام التربوي العقل كلبيّاً يتعاطى بضرب من القياس الفائق بافلوفياً.
إن الأنسنة الحقيقية هي أنسنة الدّماغ البشري، أي التفكير وفق العقل المجرد، عقل يندمج ويراقب ويتمرد ويعيد اختبار التفكير، عقل متحرر يدرك أنّ مهمّته أسمى من النخاع الشوكي، هو يدير العملية ويتحكم في سائر الوظائف، العقول أئمة الأفكار وليس العكس. الأنسنة هي أوّلاً وقبل كلّ شيء مهمّة تستهدف طريقة التفكير، لا يمكن إحراز الأنسنة بدماغ يقوم مقام النخاع الشوكي، بالقياس الذي يتيحه ردّ الشرط البافلوفي، بقياس إبليس.
لا يعني العقل لحظة تجرّده، أنّه يعمل بمنأى عن التركيب، بل أقصد تجرده عن مخرجات التفكير المتاح، عن قواعد اشتباك يرسيها العقل المنتظم.
إنّه يستأنف نشاطاً بمعيّة ملكات أخرى يفرض عليها قواعد اشتباك جديدة ولا يستسلم لها. إنه يمنح الخيال سلطة الانقلاب على الصور.
العلم كالفلسفة، ككل شيء آخر، يعيش جموداً حقيقياً، حتى الواقع، حتى المادة، باتت عاجزة عن الظهور بوجه آخر لا يقره الباراديغم المتسلّط . لقد استنفد هذا الأخير أغراضه، وأصبح حاجباً للواقع، مُعيقاً للحركة، فبين كشف علمي وآخر، رهق كبير، ولكن لحظة تولد الكشف الجديد مدينة لتمرد العقل النّاظم، وليس للعقل المنتظم المحروس، العقل الفاعل الذي يُقِرُّ النموذج، ولكنه لا يفعل ذلك من دون شرط . والشّرط هنا يقرره حدسنا العظيم، الحدس لا يُسلِّم للباراديغم، بل هو من يدرك لحظة الصّفر التي يجب فيها تغيير قواعد الاشتباك في المعرفة، لأنّ الحدس موصول بالوجود، وهو الحبل الوحيد الذي يصل المعرفة بالوجود. فالمعرفة إن كانت هي عين الوجود، فالضامن هو الحدس العظيم.