ورشة قيادة الجوقات.. في محاولة بناء المجتمع من خلال الموسيقا
تشرين- بديع صنيج:
“عندما نتنفس، يتنفس مغنونا معنا. عندما نبتسم، يبتسمون لنا. عندما نقف جيداً، يقفون معنا”، هذا ما قاله “جيمس ديفي” قائد الجوقات ومدرب الصوت الشهير، هذا الشعور يجسد تماماً ما قامت عليه ورشة قيادة الجوقات التي نظمتها جمعية النهضة الفنية بالتعاون مع دائرة العلاقات المسكونية والتنمية (DERD) التابعة لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس (GOPA).
فن الإلهام
لم يتعلّم المشاركون في هذه الورشة تقنيات القيادة فقط، بل أيضاً فن الإلهام ضمن رحلة مكثفة في فن قيادة الجوقات، مصممة لتحويل 21 موسيقياً موهوباً إلى قادة كورالات بعد إعطائهم أهم المبادئ المتبعة عالمياً في ذلك، بعدما شكلوا سيمفونية لا تُنسى من التعلم والتآخي.
لم تكن هذه ورشة عمل عادية؛ إذ كانت تحت إشراف المايسترو ندي منى، وتعمق المشاركون في تعلم تقنيات القيادة الأساسية، بما في ذلك: الوقوف، الإشارات، الحركات التحضيرية، والاستخدام الفعال للميكروفونات، كما تعلموا كيفية دمج الآلات الموسيقية مع الجوقة، وممارسة القيادة في أنماط موسيقية متنوعة.
المهارات التنظيمية
أكد المايسترو منى مدير أكاديمية موزايكا والخبير في ورشات قيادة الجوقات لما يزيد على العقد، أهمية المهارات التنظيمية في قيادة المشاريع الموسيقية الناجحة، مقدماً للمشاركين مجموعة متنوعة من تقنيات القيادة بما فيها ممارسة الأنماط الأساسية والمتقدمة للقيادة، مع التأكيد على الأنماط اليدوية المحددة للإشارة إلى الإيقاع والضربات لتواقيع زمنية مختلفة. كما استكشف المشاركون آليات تجميع الضربات في اثنتين أو ثلاث، مع مهارات التواصل الضرورية لأي قائد جوقة، والقدرة على نقل رؤيته وتعليماته بوضوح للجوقة، والذي يعتبر أمراً حاسماً للتدريبات والعروض الفعالة. يقول المايسترو منى: بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يتمتع قائد الجوقة بمهارات شخصية قوية لبناء علاقة وثقة مع أعضاء الجوقة، وخاصةً أن المهارات القيادية ضرورية لإلهام وتوجيه الجوقة بفعالية، والإبداع مهم أيضاً، لأنه يسمح للقائد بجلب أفكار وأساليب جديدة للموسيقى”.
تعلم المشاركون أيضاً عن الإشارات والقطع، وأتقنوا فن إعطاء إشارات واضحة لبدء وإيقاف الغناء لأقسام مختلفة من الجوقة، واختبروا كيفية استخدام الإيماءات اليدوية للإشارة إلى التغييرات في الإيقاع (تصاعد، تناقص) والتعبير (ليغاتو، ستاكاتو).
اهمية الإشارات
أوضح المايسترو منى أهمية الوقوف الجيد والإيماءات الواضحة والواثقة لنقل نوايا القائد إلى الجوقة، مع ضرورة إبراز دور تعابير الوجه في نقل العواطف والديناميكيات، ما يساعد على إلهام الجوقة.
كما تنوعت خلفيات المشاركين في الورشة، وهو ما اعتبره “منى” أحد التحديات الرئيسية، إذ كان هناك قادة لجوقات الكبار، وجوقات الأطفال، وجوقات الكنائس، والجوقات البيزنطية، وجوقات المتطوعين مع الهواة، وحتى جوقات المدنيين.
وقال الخبير الأردني: “هذا التنوع جعل التدريب أكثر تعقيداً، حيث كان عليّ موازنة وتكييف التدريب لتلبية الاحتياجات المحددة لكل مجموعة. ومع ذلك، فإن هذا التنوع أغنى الورشة أيضاً، حيث يمكن للمشاركين التعلّم من تجارب وآراء بعضهم البعض”.
بناء مجتمع
ورشة العمل هذه لم تكن فقط عن التعلم؛ بل كانت عن بناء المجتمع، نتيجة الخلفيات المتنوعة للمشاركين الذين تبادلوا آرائهم وتجاربهم، ما حقق نوعاً من التنوع الثقافي والفكري الذي أغنى الورشة، وجعلها تجربة فريدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
كما عززت الورشة التواصل بين قادة الموسيقى، بهدف بناء مجتمع قوي من المحترفين في هذا المجال، وعن ذلك قالت “سفانا بقلة” من اللجنة التنظيمية في جمعية النهضة الفنية وقائدة جوقة غاردينيا: “تركز جمعية النهضة الفنية على تمكين وبناء مهارات الموسيقيين في سورية، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي نواجهها بسبب العقوبات والتنقل المحدود للموسيقيين السوريين، لذا فإن توفير فرص التدريب داخل البلاد أمر مهم لمساعدة الموسيقيين على اكتساب مهارات جديدة والتقدم في مسيرتهم المهنية”.
كتابة الأغاني
وأضافت: “قبل ورشة قيادة الجوقات، نظمنا ورشة كتابة الأغاني. تهدف كلتا الورشتين إلى تدريب الموسيقيين ومنحهم الفرصة للتطور والتفوق في مجالاتهم، لاسيما أن العزلة خلال العقد الماضي جعلت من الصعب على الموسيقيين السوريين تعلم تقنيات جديدة ونقلها إلى الأجيال الجديدة، إذ إن الظروف المقيِّدة جعلت البعض متأخرين عن أقرانهم، لكنها أيضاً عززت روح الابتكار والرغبة القوية في التعلم، بمعنى أن العزلة كانت سيفاً ذا حدين، فمن جهة حدت من وصولنا إلى التقنيات والمعرفة الجديدة، لكنها بالمقابل جعلتنا أكثر ابتكاراً ورغبة في التعلم، وهذه الورشة هي دليل على تلك المرونة والعزيمة”.
جودي سليمان إحدى المشاركات وهي خريجة المعهد العالي للموسيقى في سورية وعضو في جوقة غاردينيا، أوضحت أن الورشة كانت كنزاً من المعرفة، قائلةً: “على الرغم من أنني لست قائدة جوقة بعد، لكن لدي شغف قوي بالقيادة، وكانت هذه الورشة مفيدة للغاية في تعليمي كيفية وضع جدول زمني للتدريبات، التواصل بفعالية مع أعضاء الجوقة، وإدارة ديناميكيات الفريق”، مبينةً أن المهارات والتقنيات التي تعلمتها ستعزز بالتأكيد قدراتها وثقتها، ما يمهد الطريق لها لتصبح قائدة جوقة في المستقبل.
مهارات اليدين
الدكتور الجراح أديب قدماني خريج معهد صلحي الوادي للموسيقى ويعمل منذ عشر سنوات كمدرب موسيقي وهو مغنٍ منذ سبع سنوات، أعجب بالجوانب العملية للورشة، قائلاً: “المعلومات المقدمة عرضت مدارس وتقنيات قيادة متنوعة، لكن الجزء العملي كان الأكثر قيمة، ولاسيما موضوع التنسيق والدقة والقدرة على العمل بمهارة باليدين، وهو ما يعتبر من القواسم المشتركة بين الجراحة والموسيقى.
مع انتهاء الورشة، عبر المشاركون عن امتنانهم للفرصة التي أتيحت لهم للتعلم من المايسترو منى والتواصل مع قادة الجوقات الآخرين، وفي كلمة للخبير منى: “معاً جعلنا هذه الورشة ناجحة، وأتطلع إلى المزيد من هذه الفعاليات في المستقبل”، وهكذا، بقلوب مليئة بالتناغم وعقول مليئة بالمعرفة الجديدة، غادر المشاركون، مستعدين لنشر سحر الموسيقى في جميع أنحاء سورية. لم تكن هذه الورشة مجرد تدريب على القيادة؛ بل كانت عن خلق مجتمع متناغم من خلال لغة الموسيقى.