الفلسفة بالتخفيض .. (la philosophie en réclame)
تشرين- ادريس هاني:
تورطتُ في وضع المصطلح باللغة الفرنسية، لما له من وقع خاص على المتلقّي، لا سيما من له سابق وعي بهذه الظّاهرة، فالنداء يصل الخافقين: آآريكلام، آآدوا د لبرغوت (المقصود هنا: الريكلام ودواء البرغوث).. أقصد أنّ القوة التداولية للمفهوم هي شعبوية لا شأن للصَّوالين بها، وهي تُحرج النخبة، تلك النخبة التي ليس فقط أنها جنينية، بل هي نخبة جنّية، لأنّها خفية فيما هو موصول بمصائر الأمم، حاضرة أيما حضور فيما هو جالب للحظوة والتّصوْلُن. (الريكلام: كلمة تركية ترتبط بعالم الكازينوهات وفتيات الليل).
لا شيء إذن تغيّر، فالجوهر واحد، وحركته التفافية هذه المرّة، تعقيل الشعبوية، أي منحها أكسسواراً مفهومياً، عزوف عن التعميد في حوض الفلسفة أو استصحاب الغريزة، غريزة السّوق، ضوضاء الباعة، تلاص الفراقشة.
لا شكّ أنّ الفلسفة وجدت فضاءها الأوّل في الآغورا (ساحة مركزية كان يلتقي بها الفلاسفة في أثينا) كما وجد الشعر فضاءه العربي في سوق عكاظ. لكن فضاء الآغورا هو نهاية التأمل ومخرجاته يحملها الفيلسوف ويتقاسمها مع فضاء لا بديل عنه من حيث فرصة الاحتشاد. ليست لدينا دراسة حقيقية عمن كان في الآغورا غير آبه بما يقول الحكيم. إشراك الجمهور في فعل التفلسف مختلف تماماً عن تضليل الجمهور بالتفلسف. كان سقراط ينجز مهمّته العبقرية في إبداع الأفكار، ثم يتقاسمها بواسطة السؤال في عملية بيداغوجية جعلت من الفلسفة نفسها خطاباً تربوياً وتنمية للذهن وارتقاء بغريزة التِّسآل. (البيداغوجيا: طريقة تدريس وتدريب).
الآغورا فضاء مزيج بالمنافع المادية والرمزية، سوق اخترقه التِّسآل الفلسفي. كانت الحكمة أَنْفسُ معروض في الآغورا، لكن ماذا عن فضائنا أو بالأحرى سوقنا؟
ففي آغورا «الريكلام» و«دواء البرغوت»، يطغى التِّكرار، تكرار غير بيداغوجي، إنما تكرار لمنح التضليل صفة الحقيقة. هنا الفلسفة تفقد جوهرها كترياق، لتصبح خداعاً، اختطافاً لمفاهيمها، اليد الخفية للنظام التربوي في العالم، الذي حرّف وظيفة الفلسفة وجوهرها، لم يعد تطويراً يبني على مخرجات الآغورا، بل بات تلقيناً وتنزيلاً وتدويراً لنفايات المفاهيم وقتل ملكة الإبداع.
انخفض ثمن الفلسفة الرمزي، ودبّ إليها الزّيف، وهي إذن في أزمة. ففي سوق التخفيض تشيع الشعبوية، طُلاّب البضاعة المزجاة. لكن ثمة ما هو أبعد من ذلك، فالفلسفة كما ذكرنا مراراً، وبما أنّها محبّة الحكمة، فلا يمكن أن تتزيّا بالخفيض من الأثمان وتبتاع بثمن بخس، فمن أحبّ شيئاً اشتراه بأغلى ثمن.
إذا كانت الفلسفة هي إمكانية للتفكير تتمتع بخصوصية، كونها تنشط داخل نظام مقولات، فهذا لا يعفيها من مسؤولية صيانة المفاهيم، فهذه الأخيرة تتعرّض للتآكل، والفساد، وعوامل التعرية. ولا يمكن أن نحلّ صيانة المفاهيم ببدائل مفاهيمية غير مضمونة، وغير وافية بالمطلوب، أي بحرفة صباغة الحمير في سوق المفاهيم. فالمفاهيم لا يٌصار إلى إبداعها من دون دوافع موضوعية كما نفهم من دولوز، بل لا بدّ من وجود الحاجة والضرورة لهذا الابتكار، حيث الزّيادة وعدم التقيد بالحاجة هي من رأس أحمق.
إنّ سوق الفلسفة بالتخفيض، يُعيد الأهمية لما هو أخرق من مفاهيمها البالية، بينما متمثّل الريكلام الفلسفي هو أكثر تمسرحاً ممن أقلقهم تِسْآلُها، وهيّجت مُهجهم تأمّلاتها، وشغلتهم آراؤها. ما الفرق بين صائح: آآريكلام، آآدوا (د) لبرغوث، وصائح: آآآ الفلسفة، آآآ…… ليتها ماتت عليها شفتاه.
الضرر الذي يترتّب على هذا الإخضاع للفلسفة في سوق التخفيض، ليس طغيان الشعبوية المُقنّعة، وفصل الفلسفة عن نُبلها وسمْتها الحضاري، بل ستكون وسيلة عالم الإنحطاط لإعادة إنتاج التّفاهة المقنعة، لتصبح عدواناً أزبل من كلّ قطاع احتوته التّفاهة. وما هو أخطر من ذلك، ضررها على العقل، لمّا أدركنا بأنّ العقل يعكس صورة اشتغاله في إطار محدد، وهو ما يعيق حركة العقل الجوهرية، يتحوّل الإطار التاريخي والمعرفي إلى عائق يحجب ممكنات العقل الأخرى، يتأثّر العقل بإدارة أطر التفكير، بالانزياح خارج التعقيد. إنّ العبر-مناهجية بما أنّها تراهن على التعقيد واحتمالات الحركة الجوهرية للعقل، هي النقيض التاريخي للفلسفة كصيحة في سوق الريكلام، في سوق التخفيض، الفلسفة فيما آل إليها وضعها كدواء البرغوت.
كاتب من المغرب العربي