ملف «تشرين».. مَحدودية مزمنة ترافق أغنيتنا.. والنتيجة محسومة لمصلحة الآخر
تشرين- لبنى شاكر:
لِنتفق بدايةً على استبعاد كلمة “محنة” في الحديث عن الأغنية السورية، ففي معناها إشارةٌ إلى فترات انتعاشٍ تلاها تراجعٌ أو انتكاسةٌ ما، غير أن قراءةً في تاريخها الذي تتزاحم فيه التجارب والمحاولات، يقودنا مهما بدا الاعتراف بهذا صعباً، إلى مَحدوديةٍ مُزمنةٍ لطالما رافقت أغنيتنا، حيث جعلتها باستمرار في تنافسٍ مع نظيرتيها المصرية واللبنانية تحديداً، من دون أن تتمكن من التقدّم بشكلٍ يُمكن عدّه مرحلة واضحة أو محطة يُمكن التوقف عندها، بمعنى إن الأثر والحضور والانتشار لم يكن يتعدى لحناً أو كلماتٍ أو صوتاً ما، ولم يتسع ليشمل زمناً أو حِراكاً موسيقياً أو جدّةً فنيّة، لتبدو النتيجة محسومة دائماً لمصلحة الآخر، حتى عندما يكون السوري شريكاً في مُنتجه.
بقيت مها الجابري مع الملحنين السوريين إلى وفاتها من دون أن يترك صوتها أثراً يُذكر
الضعف أو عدم القدرة على مُجاراة اللحن والكلمة الوافدين إلينا، ليسا اتهاماً نسوقه هكذا، وإلّا لماذا فضلت أسماءٌ كثيرة السفر إلى مصر في الماضي والحاضر، وأذكر هنا ما قاله الإعلامي عبد الرحمن الحلبي في ندوة (كاتب وموقف) قبل أعوام مُتسائلاً عن تسابق المطربات السوريات على الألحان المصرية، يومها استحضر المطربة فايزة أحمد، والتي ظل صوتها في سورية أسير الملاهي والمقاهي، ولم يستطع أحدٌ من الملحنين السوريين إطلاقه، حتى كان ذلك من خلال ملحن مصري، ثم كان لها ذاك النجاح الكبير، وهناك صوت آخر لا يقل تميزاً عنه هو صوت مها الجابري، التي بقيت مع الملحنين السوريين إلى وفاتها من دون أن يترك صوتها أثراً يُذكر.
الضعف امتدّ إلى ما يُسمى صناعة النجوم، رغم ما في العبارة من شموليةٍ، لكن مُجدداً ورغم اختلاف الزمن سنكون أمام الإشكاليات ذاتها؛ غياب منهجيةٍ مدروسةٍ لتقديم تجربةٍ فنيّةٍ، تُوازي نظيراتها الأكثر شهرةً وشعبيةً وقبولاً عند الناس في دولٍ عربيةٍ أخرى، لأن ما يحدث معظم الأحيان هو انطلاقة سريعة، ثم لا يلبث صاحبها أن يختفي عن الساحة، إلى أن يجد دعماً وتبنياً من جهة مصريّة أو لبنانية، وفي حال ظلّ مخلصاً للحالة السوريّة الصرفة، فعليه أن يرضى بالقليل من الانتشار حتى على الساحة المحليّة، هذا إذا لم ينتهِ الأمر به مُحارَباً من حيث لا يدري وجالساً في بيته أو مغنياً في الأعراس والمطاعم، وفي هذا السياق أيضاً، يُمكن استحضار برامج المواهب في سورية، والتي لم تُحقق نتائج ملموسة على الأرض.
بعض الأغنيات انتهجت لنفسها الإيقاع الصاخب والنبض الحماسي لكنها لم تمتلك أُفقاً ولم تتجاوز المناسبة التي قُدٍّمت في إطارها
في السنوات الأخيرة، ساهمت ظروفٌ غير عادية في تحوّل الضعف إلى عبثٍ وفوضى، ولاسيما مع ظهور أغنياتٍ انتهجت لنفسها الإيقاع الصاخب والنبض الحماسي، بحجة محاولة جذب المستمع، لكنها لم تمتلك أُفقاً ولم تتجاوز الحدث أو المناسبة التي قُدٍّمت في إطارها، وفي النتيجة قلما حفظها الناس أو تذكروها بعد توقف ضخها إعلامياً، وإلى جانبها مجموعة أصوات من مُغنيي الملاهي وحفلات الشواطئ، علماً أن لهؤلاء عالمهم وأحكامه الخاصة، فيما استباح آخرون التراث بحجة التحديث وإعادة الإحياء، وتحصّنت مؤسساتٌ ثقافيّة داخل جدرانها مع خريجين وموسيقيين من البيئة ذاتها، من دون أن تصل إلى أسماع الناس أو تصبح جزءاً من يومياتهم، وبذلك تكتمل دائرة الدرجة الثانية والثالثة حيث تُراوح الأغنية السورية منذ أزمان.
ما يحدث معظم الأحيان هو انطلاقة سريعة ثم لا يلبث صاحبها أن يختفي عن الساحة
ولو قلنا إن الحظ حالف أغنيتنا، لكان ذلك عبر الدراما التلفزيونية، وشارات العديد من الأعمال التي ساهمت في انتشار الأغنيات والتعريف بالفنانين، وعلى حدّ تعبير الموسيقي طاهر مامللي في حديثٍ سابق “لولا نجاح الدراما السورية على مساحة الوطن العربي لما كان العديد من الموسيقيين السوريين قادرين على العمل”، ولا مبالغة لو قلنا إن حالة الزخم في موسم العرض الدرامي، أتاحت لموسيقيين تقديم أنفسهم للجمهور السوري قبل العربي، ومن ثم ينكفئ هؤلاء بانتظار تجربة مماثلة، أمّا ما يجب عدّه أولوية إذا كانت هناك نيّة لتجاوز الإشكاليات التي تختبرها أغنيتنا بلا توقف، فهو أن تلتفت المؤسسة الثقافيّة إليها بجديّة وإدراك لما يعنيه التردي الماثل بلا مُواربة.
اقرأ أيضاً:
ملف «تشرين».. “شفتك يا جفلة” ومواويل “العتابا”.. آهاتُ البشرِ المحزونين!