ملف «تشرين».. “شفتك يا جفلة” ومواويل “العتابا”.. آهاتُ البشرِ المحزونين!
تشرين- جواد ديوب:
قصّة أغنية!
يحدثنا الراحل ممدوح عدوان في إحدى كتبه عن قصة أغنية “شفتك يا جفلة” والتي بقيت زمناً طويلاً محصورة في القرية التي ظهرت فيها أي قرية “دير ماما” في مصياف، كيف أنها لشاعر ربابة اسمه “محمد الأسعد”، كان يرتجلُ الأغاني والعتابا في سهرات الضيعة وأعراسها، وكيف أن الأسعد كان يوماً ما يدرسُ الحنطة على بيدره أثناء موسم الحصاد الحارّ، فيما ابنتُه “جفلة” تقطعُ الحطب من أحراج الضيعة الجبلية المطلة على سهل الغاب في حماة، وحين توجهت الصبية مع حِملها الثقيل عائدة نحو القرية كان عليها أن تمرَّ ببيدر والدها لتسقيه الماء وتعطيه “الزوّادة/الأكل”، وحين وصلت عنده كان العرق يبلل جسدها، وحرارة الجو صبغت وجهها بالأحمر الورديّ، وحين أنزلتْ “حملة الحطب” لتستريح، كانت قد فتحت أزرار ثوبها وشلحت منديلها عن شعرها (أي تفرّعت) لتشعر بقليل من الهواء في الظلّ، فارتجلَ والدُها الأسعد يقول:
(شفتك يا جفلة عالبيدر طالعة،
وجهك يا جفلة يا شمس الساطعة،
سألتك يا عيني ليش مفرّعة؟،
قالت: عرقانة تَ شمّ الهوا”.)
ثم بعد أن ارتاحت وطلبت من أبيها أن يساعدها في رفع حزمة الحطب لرفعه إلى كتفها أو رأسها اكتشف الأب أن الحطب ثقيلٌ لأنه لا يزال أخضر، فحزن عليها ولعن الفقر الذي يجبرهم على هذه الأعمال الشاقة، وقال:
“حملت الحملة وقالت ردّا لي
والحطب أخضر، ليش متقّلة!؟
وك لألعن بو الحطب على أبو المنجلِ،
على اللي درّجوا الحطب ببلادنا”
ولشدة ما فرحت الصبية بارتجال والدها راحت تغنيها وترددها على طريقة لحنٍ شعبيّ شهير هو:
“ميج بو الميج يا بو الميجانا/
يا ظريف الطول حول عندنا”،
وحين سمعها أهل الضيعة أعجبوا بها جداً وظلوا يرددونها في أعراسهم وسهراتهم، وانتقلت إلى جيرانهم في القرى المجاورة وكانت تُعرف بـ “أغنية ديرماما”! ويخبرنا “عدوان” أنه بعد أن بقيت الأغنية زمناً طويلاً شبه مهملة وغير معروفة إلّا في المناطق الجبلية لمصياف، حاول هو أن يستفيدَ منها في بداية التسعينيات وأن يوظفها في مسرحيته “سفربرلك”، وفي الوقت ذاته كان المخرج الشاب أسامة محمد العائد من الدراسة قد أدخلها في فيلمه “نجوم النهار”، ثم بين عشيةٍ وضحاها أصبحت الأغنية تُغنّى في الملاهي الليلية، ودرجت على فم الشباب والصبايا، وتحولت من أغنية لأبٍ يتغنّى بجمال ابنته وهو مشفقٌ عليها، إلى أغنيةٍ غزليةٍ خالصة… ونُسيتْ “جفلة” الحقيقية وحكايتها”!
فولكلور شعبي مُحدَّث!
حسرة الراحل ممدوح عدوان على حال “أغنية جفلة” وتحولاتها، جعلني أتساءل: هل التراث الغنائي الشعبي أو ما درج على أفواه الناس وصار لاحقاً تراثاً شعبياً، هل هو فعلاً مُلكٌ للناس ويمكن لهم التصّرف به كما يحلو لهم وكما تشتهي قريحتهم الشعبية لأنه نابعٌ منهم ومنتهاهُ عندهم، أم يجب أن يبقى في شكله الأوّلي الذي انبثق فيه؟
لعلّ الإجابة “يحق لهم” أو “لا يحق لهم” ليست مهمة طالما أن الغناء الشعبي بذاته استمرّ في التداول وانتشرَ، وحافظت عليه حناجرُ البشر وخلاياهم وورّثوه لأجيالهم بل وتناقلوه مع جيرانهم من الشعوب القريبة، شرط أن يحترموه فعلاً من دون تشويه بحجة الإضافة و”التحديث والمعاصرة” كما تفعل بعض الفرق الموسيقية الشبابية بأغنيات سورية فولكلورية أو صارت بحكم الفولكلورية، وراحوا يدخلون عليها زعيق “الأورغ”، ومطارق “الدرامز” بحجة أنهم ينتمون إلى الجيل الشبابي لكنهم لم ينسوا أصلهم وجذورهم وانتماءهم!
“عتابا” ببحة النايات!
وبالحديث عن الغناء الشعبي وتلك الارتجالات التي كان شُعّار القرى أو مرافقوهم من المغنين يرتجلونها، ومن الحكمة المخزونة مع جينات الناس البسطاء كانت المواويل تُرتَجلُ في سهراتهم حين يجتمعون ليروي كلٌّ منهم حكايات عشقه وفراقه أو ليتعاتبوا برقّة، هكذا ظهرت “العتابا” التي يقال إنها أخذت اسمها من هذه المعاتبة الحنون، وليتسامحوا عبرها بالمودة والموسيقا لأنهم أدركوا أن العداوات لا تورِّثُ إلّا الأحقاد، وأن المحبة لا بدّ باقيةٌ وواسعةٌ كما هي رحمة الله وكرمه.
وليس بالضرورة أن تكون خبيراً أكاديمياً في النوتات الموسيقية، ولا محترفاً في فنون الأوبرا والصولفيج وسيمفونيات بيتهوفن الصاخبة أو ألحان موتزارت السكريّة أو نظريات الهارموني كي تستمتع باللحن البسيط الرخيم الذي تتهادى عليه كلمات الموّال وتجعلنا نسبح في بحر النغم… لأن إيقاع القلب وحده كفيلٌ بذلك حين يرتجف حبّاً ولوعةً وعِتاباً وهو يصغي إلى الحنجرة الجبلية الرخيمة للراحل “فؤاد غازي” (ابن قرية “فقرو” من مصياف):
“بدّي عاتبك يا زين كلمه (كلمة)/
تركتني ودمع عيني صار كـَ الما
أمانه يا حلوة ذكريني كلّ ما
سمعتي صوت بيغنّي عَتاب”
وربما ليس مهمّاً أن نعرف متى وأين بالضبط بدأت “العتابا” كنمط غناء شعبي! هل مِنْ فلسطين الموجوعة؟ أم من سورية التي تختزن آلامها مع حبات التراب؟ أم من جبال لبنان التي تفيض دموعُ ينابيعِها كلما “رندح” أهلُها أغانيهم… إذ تكفينا رنّات العود على مقامات البيات والصبا لترتاح أرواحنا من عذاباتها، وينتشي جسدنا طرباً وتهليلاً، فالمتعة هنا مضاعفة؛ معرفيةٌ وحسيّة معاً، معرفة المعاني المتعددة في اللفظة/الكلمة الواحدة التي ينتهي بها كل شطر من أشطر الموال الثلاثة لينتهي في الشطر الرابع بعذوبة الباء الساكنة سكونَ النقطة في الكون، ذاك الصمت ذي الرنين الكونيّ الذي يصل الروح المحزونة بخالقها، وينفتح على عوالم الغيب كما يقول العرفانيّون أهل العشق والحب الإلهيّ:
“عيوني تراقب الدربين وتلوج
ويا روحي من المهانة تضجّ وتلوج
بقلبي من غرامِك جمر وتلوج
لا الجمـر انطفى ولا التلج داب”.
اقرأ أيضاً: