ملف «تشرين».. الأغنية السورية شجون وآلام .. انحسارٌ في المسار وبُعدٌ عن الجماهيرية.. فما هي متطلبات النهضة الفنية للأغنية المحلية؟
تشرين – بارعة جمعة:
لم تأخذ نصيبها من الظهور في عالم الغناء، بل اقتصرت على شواهد درامية لحالات فنية غير متوارثة فيما بين الجمهور المُعاصر لها، كما لم تسنحْ لها الفرصة الخوض في سباق المنافسة بين مثيلاتها من الأنواع الأخرى، التي لامست العالمية بجمهورها وحضورها في المهرجانات والاحتفاليات كافة، هو نوعٌ من الظلم لحق بها إثر انسياق الجماهير للفن الحديث، والانزواء في زاوية الأكثر تأثيراً في وجدانه، بالقليل من التفاعل معها ومع مؤلفيها والقائمين على العمل لأجلها.
ربما ليست الأولى، بل امتداد لثقافات المناطق المنطلقة منها، كترجمة فعلية لتقاليد موروثة ضمن بيئات سورية، عرفت الكثير من المؤلفين والشعراء المعاصرين، بل والآخذين منها سفيراً لألحانهم ووسيلة للتعبير عما تحمل الأعمال الدرامية من طابع محلي، لقي من التأثير والتسويق لها نصيباً وافراً والكثير من الحظوظ على صعيد الجماهيرية.. كل ذلك لم يُلغ محاولات كثيرة للتجديد والنهوض بها،
في الذاكرة
لا يكاد يختلف اثنان في أن أغنية “يابو ردين يابو ردانا” هي للمطرب الفراتي دياب مشهور، وقد غناها في إحدى حلقات مسلسل “صح النوم” 1972 وهي، كما جاء في هويتها، من ألحان عبد الفتاح سكر، ولكن.. في الحقيقة، هي مأخوذة عن المطرب العراقي فؤاد سالم، وقد غناها من بعده سعد الحلي، ثم دياب مشهور، وكل واحد منهم غناها بطريقته، هي حالة من التجديد لم تُلغِ أهمية الأغنية بل ساهمت في امتدادها لأجيال أخرى، هي ظاهرة تستحق الوقوف عندها والنظر إليها، حيث تكشف واقع الأغنية السورية وما تعانيه من ضياع متوارث أيضاً.
إلا أن أكثر المغنين والشعراء اغتنموا فرصاً من خلال الأغنية السورية، فكانت سفيراً لهم أيضاً، أمثال: المطرب الحلبي صبري مدلل، الذي اتسم بقدرات عالية على أداء أغاني الفلكلور الغنائي الخاص ببلاد الشام، وبالأخص، الموشحات والأدوار والطقاطيق الحلبية، لتبقى أغنيته الشهيرة “حمامة حلوة”، خارج السياق، ليتضح بعد البحث والتدقيق أنها مأخوذة عن سلطانة الطرب “منيرة المهدية” التي تغني:
(يمامة حلوة ومنين أجيبها
طارت يا نينه عند صاحبها)
ليأتي صبري مدلل بالتغيير في كلمة “يمامة” وتحويلها لـ”حمامة”، مختصراً الأغنية الطويلة أيضاً إلى لازمة وثلاثة مقاطع، نسرد منها:
(وأخدها البلبل وطار وياها
قصدُه يا نينه عارفْ لغاها
تطير وتجيني قاصدة تسليني
لأحلف بديني لأطير وياها)
تلاقح الثقافات
لم تخلُ الفنون الشعبية ومنها الأغنية من التناقل الشفهي من قبل مغنيها، ما جعل منها تجوب الثقافات العربية عامة، كالعراقية مصدر أنغام (الجوبي) و(الجولاقية)، التي حملت معها الجدال المستمر بين الأحبة، متنقلة بين تراث محافظتي الرقة ودير الزور، تحت مسمى التراث اللامادي، الذي امتازت به منطقة الجزيرة العربية السورية ضمن ألوان عدَّة منها “المواويل” والغناء الخاص بكل حالة نفسية متنقلة بين الحزن والفرح والحب والحنين.
وإذا ما ذهبنا إلى اللون “الفراتي” المختص بجماليَّات الكلمة والصورة المرافقة لها والمعنى الشاعري الجميل، نجد أن هناك تميُّزاً له بنوعٍ محدد يسمى “النايل” وهو من أنواع “الموال” ويختلف بين عشيرة وأخرى، حاله كحال فن “القدود”، التي دخلت موضع نقاش وجدل بين بيئات سورية عدة، فيما ثبتت الرواية الأخيرة لصالح مدينة حلب ومغنيها وشعرائها.
أمام كل هذا، يبقى للتباين في أفكار واهتمامات الأفراد خلال تطوُّرها عبر الزمن الدور الأكبر في ضعف الاهتمام بمثل هذه الأنواع وتلاشيها في أماكن عدة، والذي يبرره طغيان مفهوم الحداثة التي شوَّهت أفكار الجمهور المتلقي، الذي بات واضحاً فيما يُقدم في تراث المنطقة الساحليَّة بطريقة فيها الكثير من الخطأ وبعيدة كل البعد عن حقيقته.
إلا أن ما تفتقده الأغنية السورية اليوم، والذي يُعرقل عودتها بقوَّة هو اللحن الذي يمثل هويَّتها إلى جانب الدعم المادي، لصعوبة تقديم الأغنية بتقنيَّات فقيرة تحول دون وصول الألحان بصورة صحيحة إلى مسامع الحضور، وهو ما يفرض علينا تأمين ألحان وأدوات حديثة، وما نلاحظه اليوم من تقنيَّة المزج بين الألحان هو سلوك خاطئ، ولا يخدم الأغنية لخصوصية اللون التراثي الواحد في طرق تقديمه، تبعاً للمنطقة التي يخرج منها، والذي يعود للغنى الثقافي، كما أن ظهور الفرق الحديثة وتقديمها التراث بهذه الطريقة المدعومة بقوَّة من الإعلام، يعدان تشويهاً للأغنية السورية بكل أنواعها.
الأغنية السورية والدراما
تصدرت الأغنية المشهد الدرامي، ولامست وجدان الجمهور وعرفت من خلاله أيضاً، باعتبار أن الشارة هي العنصر الجاذب والعامل الأساسي في نجاح أي عمل، لذا كان ميدان الدراما المُنقذ الأول لها، لإدراك صناع الأعمال الدرامية السورية مكانة الشارات الغنائية والموسيقا التصويرية، وأهميتها بالتوازي مع أهمية موضوع
العمل والنص والمعالجة الدرامية، فيسعون لاستقطاب أصوات غنائية جميلة ووجوه شابة لتؤدي الأغنية، الأمر الذي حققه مسلسل “زقاق الجن” في شارته التي غناها المطرب “محمد خيري”، من كلمات وألحان رضوان نصري الذي وقع أيضاً الموسيقا التصويرية للعمل .
ونختم أخيراً .. إن وجود هذه الألحان في ثقافتنا السورية ليس غريباً في بلد اكتشف فيه أول لوح كُتب عليه بالنقش المسماري كلمات أول مقطوعة موسيقية في العالم، وإضافة إلى ذلك يقول علماء الآثار: إن “سورية أبدعت بإنتاج الآلات الموسيقية المتنوعة لعزف الألحان، ومن هذه الآلات قيثارة تشبه الطوق تقطعه عارضة شدت إليها الأوتار، والأعواد التي تطورت حتى وصلت لشكل العود العربي الحالي ذي الطابع الشرقي.
كما أن الغناء في سورية والمنطقة العربية كلها يحتاج إلى تدقيق وتأصيل وتوثيق، وإن كان ثمة جهود متفرقة (في سورية) بذلها سعد الله آغا القلعة، ومصطفى هلال، وصميم الشريف، وأحمد بوبس، إلا أن هذه الدراسات، على أهميتها، لم تصل إلى مستوى إصدار موسوعة شاملة، يمكن اعتبارها مرجعاً يعطي للباحث المتعطش بغيتَه بسهولة وبساطة.
اقرأ أيضاً: