الأطلسي في قمته الـ75.. «مؤامرة أوكرانيا» مستمرة ضد روسيا.. آسيا أولوية متقدمة والصين قلق مزمن.. وعودة ترامب «زلزال استراتيجي لمفهوم الأمن الأوروبي»
تشرين – هبا علي أحمد:
أقل ما يمكن أنّ يُقال عن قمة حلف شمال الأطلسي «ناتو» المنعقدة في واشنطن (بدأت أمس وتختتم اليوم) والمتزامنة مع الذكرى الـ 75 لتأسيس الحلف.. أقل ما يُقال عنها إنها «بطة عرجاء» تُداري عرجها بقضايا خارجية ووضع سيناريوهات مزعومة حول مخاطرة مُتربصة بالحلف وحتى العالم من جراء صعود قوى مناوئة لضفتي الأطلسي، بينما التحديات الداخلية تبدو أشد خطراً وأكثر إلحاحاً، ولاسيما في ظل الأحاديث الشائعة حول مستقبل الحلف والخلافات بين أعضائه حيث إن أكبر أعضاء الحلف في حال يُرثى لها ولاسيما الولايات المتحدة في غمار انتخابات تشهد الكثير من الفوضى والتكهنات، وهناك الانتخابات الأوروبية البرلمانية وما أفرزته من واقع سياسي أوروبي لا يشبه أوروبا لعقود خلت، تلتها الانتخابات الفرنسية وحال عدم اليقين التي دخلت فرنسا في طورها ومن بعدها مثيلتها البريطانية التي أنتجت تغيراً في النخبة الحاكمة.
الأطلسي في قمته الـ75.. «مؤامرة أوكرانيا» مستمرة ضد روسيا.. آسيا أولوية متقدمة والصين قلق مزمن.. وعودة ترامب «زلزال استراتيجي لمفهوم الأمن الأوروبي»
كل هذه التحدّيات تهرب منها القمة بأعضائها إلى الحرب الأوكرانية ونشر مزاعم حول التهديد الروسي الصيني ووضع ملف عضوية أوكرانيا على الطاولة، والذي لم يجد طريقه إلى الحلف بأي حال تماماً كما كان الوضع عليه في قمة فينيليوس العام الماضي، وخضع الملف إلى التأجيلات والتسويفات وصولاً ليومنا هذا، وعليه يمكن تصور السيناريو التالي: بيان يُندد بـ«الخطر الروسي» والتأكيد على دعم أوكرانيا وتسليحها من دون أي ضمانات حول انضمامها إلى الحلف.
بين الخوف والترحيب
عدم اليقين الأمريكي في سياق السباق الرئاسي والتجاذبات بين الرئيس الحالي جو بايدن ومنافسه الرئيس السابق دونالد ترامب سرت عدواها إلى أعضاء الحلف الذي يقف أمام تحدي عودة الأخير وتشكيكه بجدوى الحلف وتهديده بالانسحاب منه وموقفه من الحرب الأوكرانية، كما ألمح ترامب إلى احتمال حدوث مواجهة تجارية مع الاتحاد الأوروبي بسبب الوضع غير العادل المزعوم حول شراء السلع الأميركية، بما في ذلك السيارات.
على هذه الخلفية وبينما يترقب بعض الأعضاء بتخوف عودة ترامب يتقرب البعض الآخر منه ما يشير إلى حالة الانقسام والتشتت التي يعانيها الحلف، ففي حين يرى بايدن أن «ناتو» جزء أساسي من موقف الولايات المتحدة العالمي ورصيد ضخم في أمنها وازدهارها، يعتبر ترامب أن الحلف مثّل عبئاً على مدى عقود وأنه صفقة سيئة بالنسبة لأميركا حيث دعمت واشنطن أمن حلفاء أغنياء ولا تحصل على الكثير في المقابل.
يرى بايدن أن «ناتو» رصيد ضخم في أمن الولايات المتحدة في حين يعتبر ترامب أن الحلف صفقة سيئة بالنسبة لأميركا
وهكذا يتحول جزء من القمة إلى تجاذبات حول دعم ترامب من عدمه، لكن على ما يبدو أنّ الأداء الكارثي لبايدن في المناظرة الأولى جعلت كفة العديد من الأوروبيين تميل نحو ترامب، إذ أفادت صحيفة «فايننشال تايمز» نقلاً عن مصادر بأن قادة ووزراء و مسؤولين من العديد من الحكومات الأوروبية، وخاصة تلك الموجودة في شرق وشمال أوروبا، نظموا اجتماعات هذا الأسبوع مع أفراد مرتبطين بترامب، مثل كيث كيلوغ، رئيس الأركان السابق لمجلس الأمن القومي، والوزير السابق، وكذلك وزير الخارجية في فترة حكم ترامب مايك بومبيو، موضحة أن الاجتماعات تمت على أمل البدء في إقامة علاقات إذا فاز ترامب في الانتخابات.
وفي الوقت نفسه، وفي محادثات خاصة أثناء قمة الحلف، أعرب العديد من المسؤولين الأوروبيين عن انزعاجهم من انعكاسات الحملة الانتخابية الأمريكية على طموحات حلف شمال الأطلسي الأمنية.
إلى التسليح فقط
هذه المساحة من المعطيات تشير إلى أن الشأن الأوكراني سيكون أكثر القضايا المطروحة أهمية وأقلها في آنٍ معاً.. أكثرها أهمية فقط للتهويل من «الخطر» الروسي ما سيتوجب زيادة الإنفاق العسكري لدول الحلف وزيادة الدعم لأوكرانيا عبر ديمومة تسليحها من دون أن يخرج الدعم عن هذا الإطار، أي التدخل المباشر لحماية نظام كييف، ما يستدعي مواجهة مباشرة مع روسيا وهو ما لا تريده واشنطن والغرب عموماً، أقلّه راهناً، إذ دائماً في صراع القوى العالمي يبقى الباب مفتوحاً على جميع الاحتمالات، وفي سياق قضية التسليح أعلن بايدن أن الولايات المتحدة وألمانيا وهولندا ورومانيا وإيطاليا سيزودون أوكرانيا بخمسة أنظمة دفاع جوي استراتيجية وعشرات من أنظمة الدفاع الجوي التكتيكية في الأشهر المقبلة، مضيفاً: أوكرانيا ستتلقى أيضاً مئات الصواريخ الاعتراضية لأنظمة الدفاع الجوي من الغرب في عام 2025، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تعتزم جعل أوكرانيا وجهة ذات أولوية لتزويدها بأنظمة الدفاع الجوي، مؤكداً أن كييف ستتسلمها أبكر من أي حلفاء آخرين لواشنطن.
المسؤولون في قمة واشنطن اعترفوا بأن أوروبا والولايات المتحدة ليس لديهما الوقت الكافي لإنتاج الأسلحة اللازمة لتلبية كل احتياجات أوكرانيا
في الوقت ذاته، اعترف المسؤولون في قمة واشنطن بأن أوروبا والولايات المتحدة ليس لديهما الوقت الكافي لإنتاج الأسلحة اللازمة لتلبية كل احتياجات أوكرانيا، ووفقاً لصحيفة «وول ستريت جورنال»: يعترف الكثيرون، بما في ذلك شركات الدفاع والبنتاغون، بأن تقديراتهم الأولية كانت متفائلة للغاية بشأن مدى السرعة التي يمكنهم بها زيادة إنتاج الأسلحة التي تحتاجها كييف، مشيرة إلى أن اضطرابات سلسلة التوريد ونقص العمالة تعني أن الأمر سيستغرق أربع سنوات لمضاعفة إنتاج الصواريخ الأمريكية الموجهة المضادة للدبابات من طراز «جافلين» وهذا ضعف المدة المتوقعة في البداية، وهذا يصطدم مع القائمة الجديدة بالأسلحة التي رفعها فلوديمير زيلينسكي لحلفائه المجتمعين في قمة «ناتو» التي يحتاجها لـ«الانتصار على روسيا» على حد قوله، مطالباً إياهم بتسليم قواته جميع مقاتلاتهم «إف 16»، ما يشير إلى أن ما تراه واشنطن ومعها الغرب هو ما يسري وخلافه لا وهذا يجعل القضية الأوكرانية أقلّ القضايا المطروحة أهمية، ولاسيما لناحية انضمام أوكرانيا للحلف إذ لن تأتي القمة على ذكر هذا الموضع مطلقاً بل على العكس هذا الموضوع يدخل في سياق أوراق الاستثمار والضغط التي يستخدمها الحلف ضد روسيا أما أوكرانيا مجرد بيدق يتم تحركه كيفما اتفق، وكشفت صحيفة «نيويورك تايمز» نقلاً عن مصادر دبلوماسية في الحلف أن دول «ناتو» عكفت منذ أشهر على محاولة تجاوز ذلك الخلاف مع أوكرانيا، من خلال محاولة التوصّل إلى صيغة معينة يمكن إزاءها طمأنة كييف حول مستقبلها في الأطلسي، ومن دون المخاطرة بمنحها العضوية الفورية فيه.
دول «ناتو» تحاول التوصّل إلى صيغة لطمأنة كييف حول مستقبلها في «الأطلسي» من دون المخاطرة بمنحها العضوية الفورية فيه
التواجد في آسيا
على ما يبدو أن التوجه إلى آسيا – من وجهة النظر الأطلسية ولاسيما الأمريكية – تتقدم من حيث الأهمية الموضوع الأوكراني، وهذا الشأن محط خلاف أطلسي أيضاً، ولاسيما مع توجه إدارة بايدن لجعل «ناتو» يركز بشكل أساسي على منطقة المحيطين الهندي والهادي، وعندما ذهب وزير الخارجية أنتوني بلينكن أول مرة إلى مقر «ناتو» عام 2021، ذكر الصين أكثر من 10 مرات، في حين ذكر روسيا 4 مرات فقط، ومن هنا يرتفع القلق بين الأوروبيين من احتمال مطالبة واشنطن لها بلعب دور عسكري في منطقة المحيطين الهندي والهادي، مشابه للدور العسكري الأميركي في القارة الأوروبية، ولاسيما أن دعوة البيت الأبيض اليابان وكوريا الجنوبية للمشاركة في قمة «ناتو» تهدف إلى زيادة «التعاون والتنسيق» بين «ناتو» وحلفاء أميركا الآسيويين.
في هذا الشأن، أشارت صحيفة «غلوبال تايمز» تعليقاً على قمة «ناتو» ونوايا الغرب لتعزيز تواجده العسكري في آسيا، إلى أن الدول الآسيوية لن ترحب بتوسع الحلف وستعارض محاولاته لتعزيز نفوذه وتنفيذ الاستراتيجية الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ، لافتة إلى أن تدخل الحلف في الشؤون الإقليمية سيؤدي إلى زيادة التوتر بينه وبين دول المنطقة، منوهة بأن الحلف أظهر دوره المزعزع للاستقرار في أوروبا وأنه قد يطلق آلية تدميرية مماثلة في آسيا، وبالتالي تريد الأغلبية الساحقة من دول المنطقة أن يتوقف «ناتو» عن خلق التوتر ونشر عقلية الحرب الباردة وإثارة المواجهات.
ووصفت الصحيفة الحلف بأنه أداة تحاول الولايات المتحدة استخدامها لتنفيذ استراتيجيتها لردع الصين، وأن الغرب يسعى لاستخدام حلفائه في المنطقة وبينهم اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا في الأمن السيبراني ومشاريع تضليل المجتمع الدولي، لكنه سيواجه صعوبات في المنطقة التي تختلف كثيرا عن أوروبا من حيث الجغرافيا والعقيدة والقيم، وسيكون من المستحيل على الولايات المتحدة وحلفائها تشكيل حلف كـ«ناتو» في المنطقة، وبالتالي فإن استمرار محاولات المد الأطلسي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ محكوم عليها بالفشل.
اهتزاز التزام واشنطن بالحلف من شأنه إحداث زلزال استراتيجي لمفهوم الأمن الأوروبي
في العموم يرى خبراء أن قمة الحلف الحالية تأتي في واحدة من «أفضل الأوقات وأسوأها للحلف»، مشيرين إلى أن الحلف يحظى بأوقات ممتازة، في ظل اتفاق على ضرورة «ردع» روسيا، ونجاح في توسع الحلف جغرافياً بضمه فنلندا والسويد خلال العامين الأخيرين. وفيما يتعلق بالأوقات السيئة هي استمرار الحرب الأوكرانية المتاخمة لحدود «ناتو» والتي لديها طموح بالانضمام إليه، وتحديات زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي، وتصاعد التشكيك بالتزام الولايات المتحدة تجاه الحلف، خلقت مخاوف لم يسبق أن واجه مثلها على مدار تاريخه، ومن شأن اهتزاز التزام واشنطن بالحلف إحداث زلزال استراتيجي لمفهوم الأمن الأوروبي، خاصة أن واشنطن تسهم بما يقدر بـ60% من ميزانية الحلف وما يقرب من 505 آلاف من عدد مقاتليه. وتساهم بقية دول الحلف بـ1.4 مليون جندي، وميزانية عسكرية لا تزيد على 400 مليار دولار.