الناخب الفرنسي يحمي «جمهوريته الخامسة» إلى حين.. ماكرون أمام تحدّي البرلمان المعلق و«أقصى اليمين» خارج الحسابات

تشرين- هبا علي أحمد:

شكلت الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية مفاجأة من خارج التوقعات والسيناريوهات التي كانت مطروحة على مدار أسبوع، أو منذ دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الانتخابات المبكرة الشهر الماضي، ورغم توجه الأنظار إلى اليمن المتطرف، إلا أن تحالف اليسار خطف أضواء الجولة الثانية على نحو غير متوقع متصدراً المرتبة الأولى، وبصرف النظر عن خسارة اليمين المتطرف مُتراجعاً إلى المرتبة الثالثة بعدما تصدر في الجولة السابقة، إلّا أن ذلك يُبقى الباب مفتوحاً على مختلف السيناريوهات، ولاسيما أن أياً من الأحزاب لا يملك الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة، وبالتالي فإن حال الفوضى والترقب تبقى سائدة في فرنسا.. وأيضاً فإن خسارة اليمين المتطرف لا تعني إنقاذ ماكرون من مأزقه، بل يمكن اعتباره الخاسر الأكبر والأول بينما الفائز الأول هو الشعب الفرنسي الذي اختار إنقاذ «جمهوريته الخامسة» من براثن اليمين وما ينتظرها في حال فوزه من سياسات متطرفة لم تعتد عليها فرنسا مسبقاً، مع ذلك فإن فرنسا تعيش على وقع زلزال واضطرابات سياسية واقتصادية.

ماكرون الخاسر الأكبر في الانتخابات بينما الفائز الأول الشعب الفرنسي الذي اختار إنقاذ «جمهوريته الخامسة» من براثن اليمين المتطرف

بين جولتين وبرلمان معلّق
نتائج الجولة الأولى، التي حقق فيها اليمين المتطرف انتصاراً لافتاً، أوجدت العديد من التحديات والمخاوف حول ما ينتظر فرنسا مع وصول أقصى اليمين إلى رأس السلطة، وهذا ما دفع أحزاب الوسط واليسار وغيرها للتغلب على انقساماتها وإبرام عدة اتفاقات سريعة لتحول دون استمرار تفوق اليمين المتطرف، وقد تمثل أبرز مظاهر هذه الاتفاقات في انسحاب أكثر من 200 مرشح من معسكري اليسار والرئيس ماكرون من الدوائر التي كانت ستشهد منافسة بين 3 مرشحين لتعزيز حظوظ زملائهم بالتغلب على مرشحي «التجمع الوطني».

وكان الهدف من الانسحابات تشكيل ما أطلق عليه «جبهة جمهورية» لمواجهة اليمين المتطرف والحيلولة دون تمكن رئيسه جوردان بارديلا (28 عاماً) من أن يصبح أول رئيس من أقصى اليمين يتولى رئاسة الحكومة منذ الحرب العالمية الثانية.

على تلك الخلفية جاءت نتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية على الشكل التالي: فاز ائتلاف الأحزاب اليسارية «الجبهة الشعبية الجديدة» بزعامة جان لوك ميلانشون بحصوله على 182 مقعداً في البرلمان، وحسب البيانات النهائية التي نشرتها وزارة الداخلية حلّ تحالف الرئيس إيمانويل ماكرون «معاً» في المركز الثاني بحصوله على 168 مقعداً، بينما حلّ حزب «التجمع الوطني» أقصى اليمين بزعامة مارين لوبن ورئاسة جوردان بارديلا في المركز الثالث بحصوله على 143، ويليه الحزب الجمهوري في المرتبة التالية بـ 45 مقعداً، أما بقية الأحزاب المشاركة في الانتخابات فحصلت في المجموع على 39 مقعداً..

من السيناريوهات المتوقعة أن تؤدي النتائج إلى برلمان معلّق مع تحالف يساري في المقدمة لكن من دون أغلبية مطلقة

هذه النتيجة لم تستطع أن تحسم المشهد ولاسيما لناحية تشكيل الحكومة، إذ لم يحصل أيّ حزب أو تحالف على الأغلبية المطلقة (289 مقعداً من أصل 577 عدد أعضاء البرلمان الفرنسي)، يعني ذلك أن أياً من الكتل الثلاث لن يتمكن من تشكيل حكومة أغلبية وسيحتاج إلى دعم من الآخرين لتمرير التشريع، وبالتالي ربما نشهد حالة من «التعايش القسري» إن أمكن القول، ولا سيما أن من أبرز السيناريوهات المتوقعة أن تؤدي النتائج على الأرجح إلى «برلمان معلّق» مع تحالف يساري في المقدمة لكن من دون أغلبية مطلقة.

ما بعد النتائج
بناء التحالفات في مرحلة ما بعد الانتخابات ليس مُعتاداً في فرنسا، ما فتح الباب واسعاً أمام سجالات ما بعد النتائج والتوقعات المقبلة، إذ قال السياسي اليساري المعتدل رافائيل جلوكسمان، وهو مشرع في البرلمان الأوروبي: إن الطبقة السياسية يجب أن تتصرف مثل البالغين، في حين استبعد ميلانشون، زعيم ائتلاف الأحزاب اليسارية – زعيم حزب «فرنسا الأبية» تشكيل ائتلاف واسع من الأحزاب ذات التوجهات المختلفة، قائلاً: من واجب ماكرون أن يدعو التحالف اليساري إلى الحكم.

وفي معسكر الوسط، قال رئيس حزب ماكرون، ستيفان سيجورن، إنه مستعد للعمل مع الأحزاب الرئيسية، لكنه استبعد أي اتفاق مع حزب ميلانشون، كما استبعد رئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب أي اتفاق مع الحزب المنتمي إلى أقصى اليسار.

هذه السجالات تُبقي المقبل من الأيام مجهولاً، ولا سيما أنّ الدستور سيكون عائقاً أمام ماكرون إذا عمد إلى الالتفاف على النتائج والعجز عن توافق حكومي بالدعوة إلى انتخابات جديدة، إذ ينص الدستور على أن ماكرون لا يمكنه الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية جديدة قبل 12 شهراً آخر.
وقال رئيس الوزراء غبرييل أتال إنه سيقدم استقالته إلى ماكرون صباح اليوم، لكنه مستعد للمواصلة لتصريف أعمال الحكومة.

ماكرون يأمل بإخراج «الاشتراكيين» و«الخضر» من التحالف اليساري ما يترك «فرنسا الأبية» بمفرده لتشكيل ائتلاف «يسار وسط» مع كتلته

وينص الدستور على أن ماكرون هو الذي يختار من سيقوم بتشكيل الحكومة، لكن من سيختاره سيواجه تصويتاً بالثقة في الجمعية الوطنية، التي ستنعقد لمدة 15 يوماً في 18 تموز الجاري، وهذا يعني أن ماكرون يحتاج إلى تسمية شخص مقبول لدى أغلبية المشرعين.

ومن المرجح أن يأمل ماكرون بإخراج «الاشتراكيين» و«الخضر» من التحالف اليساري، ما يترك حزب «فرنسا الأبية» بمفرده لتشكيل ائتلاف يسار وسط مع كتلته، ومع ذلك لا يوجد أي مؤشر على تفكك وشيك للجبهة الشعبية الجديدة في هذه المرحلة، وهناك احتمال آخر هو تشكيل حكومة تكنوقراط تدير الشؤون اليومية، لكنها لا تشرف على التغييرات الهيكلية، ولم يتبين إن كانت كتلة اليسار ستدعم هذا التصور الذي سيظل يتطلب دعم البرلمان.

عن «الجبهة»
«الجبهة الشعبية الجديدة» هي تحالف من الأحزاب اليسارية الفرنسية، جمعت بين الاشتراكيين والشيوعيين وعلماء البيئة حزب «الخضر» وحزب «فرنسا الأبية» الذي يُعد أكبر أحزابها بقيادة جان لوك ميلانشون، وعلى الرغم من أن الجبهة ليس لها زعيم رسمي، إلا أن ميلانشون يُعد على نطاق واسع أقرب شخص لقيادتها.

وقد تشكلت الجبهة بعدما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة في 9 حزيران الماضي، وسبق وانتقدت هذه الأحزاب بعضها بعضاً، كما أن لديها بعض الاختلافات الرئيسية في أيديولوجيتها ونهجها، لكن المشرعين قرروا تشكيل كتلة لإبعاد أقصى اليمين عن الحكومة.

ووعدت الجبهة بإلغاء إصلاحات المعاشات التقاعدية والهجرة التي أقرتها الحكومة الحالية، وإنشاء وكالة إنقاذ للمهاجرين غير المسجلين وتسهيل طلبات الحصول على التأشيرة.
ويتعرّض ميلانشون للكثير من الانتقادات بسبب موقفه من الحرب على غزة، ويتهمه البعض بـ«معاداة السامية»، ومن أبرز مواقفه أن ما تقوم به «إسرائيل» في غزة ليس دفاعاً مشروعاً عن النفس وإنما إبادة عرقية، ودعوته إلى وقف إطلاق النار في غزة، ومطالبته فرنسا بالعمل على ذلك بكل قوتها السياسية والدبلوماسية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار