الذكاء الاصطناعي يقود قاطرة النمو الاقتصادي.. آثار إيجابية على نمو الإنتاجية وسوق العمل والتركز الصناعي
تشرين – رصد:
شبه إجماع على أن حقبة سيطرة الذكاء الاصطناعي ما زالت في بدايتها، وأن تطورها في مسار معين مرتبط بكيفية تعاملنا معها، إما للاستفادة منها في تحقيق النمو الاقتصادي وتقليل فجوات الثروة والتركز الصناعي، وإما تقييد الابتكار والإبداع لتنتهي تلك الحقبة مثلما آلت إليه سابقاتها من الابتكارات التكنولوجية.
ربما ما يجعل التفاؤل في شأن تأثير الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد هو أن التحول الذي يشهده العالم بانتشار الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية في كثير من مناحي النشاط الإنساني، يوفر أرضية واسعة لتأثير هذا التطور الجديد بأكثر مما كانت عليه الحال مع تطورات تكنولوجية سابقة، فغالب دول العالم، متقدمة ونامية، تتجه منذ فترة نحو “رقمنة” النشاط بصورة عامة، من تكنولوجيا مالية إلى الإدارة الرقمية لنظم المعلومات والمعاملات. صحيح أنه ما زال هناك طريق طويل أمام بعض الدول والمجتمعات للتحول الرقمي في بعض جوانب النشاط الإنساني، لكن التقدم الذي حدث في العقدين الأخيرين، كفيل بجعل الذكاء الاصطناعي أكثر فاعلية من ابتكارات تكنولوجية سابقة.
قال محافظ صندوق الاستثمارات العامة، الصندوق السيادي السعودي، ياسر الرميان في منتدى استثماري: إن ” تأثير الذكاء الاصطناعي إيجابي، إذ سيسهم في نمو الاقتصاد العالمي بنحو 14 في المئة إذا وجدت التشريعات المناسبة”. ويشارك الرميان في هذا الرأي الكثير من رجال الأعمال والمستثمرين ومحللي السوق والاقتصاديين، لكن الجدل لا يتوقف في الفترة الأخيرة حول هذا التطور التكنولوجي ومستقبل تأثيره في الاقتصاد العالمي إيجاباً أو سلباً، فالبعض يرى “فورة الحماس” بأن الذكاء الاصطناعي سيقود النمو في الاقتصاد العالمي إلى آفاق غير مسبوقة، لا تختلف كثيراً عن تجارب سابقة منذ نهاية القرن الماضي مثل “فقاعة دوت كوم” التي انفجرت سريعاً، وهوت بأسواق الأسهم قبل نحو ربع قرن، لكن التوجه الحالي للشركات والأعمال، والدول عامة، نحو الاستثمار الكثيف في الذكاء الاصطناعي، وما يرتبط به من صناعة أشباه الموصلات وتطوير الرقائق الإلكترونية الأكثر ذكاءً، يشجع على تبني رأي البعض الآخر الذين يرون في تلك “الثورة التكنولوجية” فرصة للاقتصاد العالمي للخروج من مراحل الجمود المتكررة في السنوات الأخيرة، والانطلاق نحو آفاق أكثر رحابة. ليس ذلك فقط على صعيد النمو في الناتج المحلي الإجمالي فحسب، وإنما أيضاً بالنسبة للإنتاجية وتوزيع الثروة، وتركز النشاط الصناعي وغيره من جوانب الاقتصاد الكلي، مع الأخذ في الاعتبار بداية أنه مثلما حدث مع عديد من الحالات التي شهدت حماساً تكنولوجياً في الآونة الأخيرة، كما كانت الحال مع ابتكار الطابعات ثلاثية الأبعاد، والسيارات ذاتية القيادة، والواقع الافتراضي وغيرها، قد ينتهي الأمر بأن يكون الذكاء الاصطناعي أيضاً أقل مما يعد به، أو أقل استعداداً للطرح في السوق عما كان مأمولاً في البداية.
تقديرات ومسارات
في ورقة بحثية نشرت على موقع صندوق النقد الدولي في شأن تأثير الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد، استعرض باحثان من مختبر الاقتصاد الرقمي بجامعة ستانفورد الأميركية المسارات المتوقعة لتأثير الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد العالمي، وأحد الباحثين هو إريك برينيولفسون، البروفيسور في معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي، والثاني هو غابرييل أونغر، زميل ما بعد الدكتوراه في مختبر الاقتصاد الرقمي بجامعة ستانفورد. وركز الباحثان في تلك الدراسة على “آثار الذكاء الاصطناعي على ثلاثة مجالات واسعة ذات أهمية بالنسبة للاقتصاد الكلي: نمو الإنتاجية، وسوق العمل، والتركز الصناعي”.
وفي كل جانب من جوانب الاقتصاد الكلي تلك، استعرضا مسارين مختلفين، السلبي والإيجابي، وفي رأيهما أن حسم الاستفادة الإيجابية من الذكاء الاصطناعي تعتمد على السياسات المبتكرة، من قبل الدول والحكومات والشركات والأعمال على السواء. وخلصا في هذا السياق إلى أن “تجربة السياسات الإبداعية” تعتمد على “مجموعة من الأهداف الإيجابية لما يريده المجتمع من الذكاء الاصطناعي، وليس فقط النتائج السلبية التي يتعين تجنبها.. وفهم أن الإمكانات التكنولوجية للذكاء الاصطناعي غير مؤكدة للغاية وتتطور بسرعة، وأن المجتمع يجب أن يكون مرناً في التطور معها”.
سلبيات وإيجابيات محتملة
يعاني الاقتصاد العالمي بصورة عامة، بخاصة الاقتصادات المتقدمة مثلما في أكبر اقتصاد في العالم بالولايات المتحدة، وكذلك في أوروبا، من التراجع المطرد في الإنتاجية، والإنتاجية في الاقتصاد هي الناتج لكل وحدة من المدخلات، وتأتي أهميتها من أنها تحدد، أكثر من أي عامل آخر، ثروة الأمم والمستويات المعيشية لشعوبها، فمع ارتفاع الإنتاجية تزداد إمكانية إدارة مشكلات مثل عجز الموازنة، والحد من الفقر والرعاية الصحية والبيئة، وربما يكون تعزيز نمو الإنتاجية التحدي الاقتصادي الأكثر أهمية في العالم.
في هذا السياق، تقول الدراسة إن استخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل الدردشة وغيرها، ربما لن يجعل “الشركات أكثر إنتاجية بعد استخدامها المتزايد للذكاء الاصطناعي، وقد تؤدي الشركات إلى إضعاف أي فوائد اقتصادية يمكن تحقيقها من الذكاء الاصطناعي إذا فشلت في تحديد التغييرات التنظيمية والإدارية التي تحتاجها للاستفادة منه على أفضل وجه”، علاوة على أن الهيئات التنظيمية الوطنية، مدفوعة بأي عدد من المخاوف، قد تفرض “لوائح تنظيمية صارمة تؤدي إلى إبطاء سرعة تطوير الذكاء الاصطناعي ونشره. وقد يحثهم على ذلك المطورون الأوائل للذكاء الاصطناعي الذين يسعون إلى حماية تقدمهم، وعلاوة على ذلك، قد تحظر بعض البلدان والشركات والمنظمات الأخرى الذكاء الاصطناعي تماماً”.
هل ستكون حياتنا أفضل في غياب الذكاء الاصطناعي؟
لن يكون لذلك المسار السلبي تأثير غير إيجابي في الاقتصاد فحسب، وإنما في كل مناحي النشاط الإنساني عموماً، كما هي الحال مع مختلف التطورات والابتكارات التكنولوجية في العقود الأخيرة، أما المسار الإيجابي الذي يعتمد على السياسات المبدعة، فيمكن أن يرفع من مستوى الإنتاجية بشكل يجعل الذكاء الاصطناعي بالفعل قاطرة نمو الاقتصاد العالمي. وتشير الدراسة إلى “أن هناك سيناريوهاً بديلاً يؤدي فيه الذكاء الاصطناعي إلى مستقبل ذي نمو إنتاجية أعلى، إذ قد ينطبق الذكاء الاصطناعي على جزء كبير من المهام التي يقوم بها معظم العمال، ويعزز إنتاجية هذه المهام بصورة ضخمة. وفي هذا المستقبل، يفي الذكاء الاصطناعي بوعده بأن يكون أكبر تقدم تكنولوجي على مدى عقود، وعلاوة على ذلك، ينتهي به الأمر أن يكون مكملاً للعمال، ويحرر وقتهم بما يسمح لهم بقضاء مزيد من الوقت في أداء المهام غير الروتينية والإبداعية، وليس مجرد استبدالهم”.
المخاوف وسياسة الاستفادة
ما ينطبق على الإنتاجية وإمكانية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في رفعها وتحسين الوضع الاقتصادي العالمي ينطبق على عوامل الاقتصاد الكلي الأخرى مثل؛ التفاوت في الثروة والتركز الصناعي وغيرها. ومن أكبر المخاوف التي تحيط بمستقبل تأثير الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد العالمي هو أن تحل الروبوتات الذكية محل (العمال) البشرية، ما يعني ارتفاع معدلات البطالة، واتساع الفجوة في الدخول ومستويات المعيشة في الاقتصادات الوطنية وعلى مستوى العالم، إلا أن ذلك ليس بالنتيجة الحتمية لتطور اعتماد الشركات والأعمال وغيرها على الذكاء الاصطناعي.
في تصريح لها قبل فترة قالت المدير العام لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا إن “الذكاء الاصطناعي سيؤثر في نحو 40 في المئة من الوظائف حول العالم، فيحل محل بعضها ويكمل بعضها الآخر، فيتعين علينا أن نوازن بدقة بين السياسات للاستفادة من إمكاناته”. وهكذا، فإن سياسات الدول والحكومات والشركات والأعمال عموماً، ستكون العامل الحاسم في تأثير الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد إما سلباً وإما إيجاباً.