ملف «تشرين».. ومع ذلك سينتصر
تشرين- إدريس هاني:
المعركة في غزّة، لكن سياقها طويل في التاريخ، ممتدّ في الجغرافيا السياسية، وغايتها قصوى، اليوم يتأكد أكثر من أي وقت مضى أنّ معارك التحرر الوطني، هي شرط أساسي في نهضة الأمم، ومن يطلب النهضة في شروط امبريالية مزرية، فإنه يطلب التعاظم غير المضمون المصير في ظل تبعية ترهن مصير الأمم في لعبة مازالت وفية لقواعد السيطرة.
معركة غزّة، معركة شعب يعاني من جور الاحتلال، وهو ليس احتلالاً يشبه سائر الاحتلالات، بل هو احتلال مركّب، أجمع عليه الغرب الذي أطلق فكرة تقرير المصير، ثم سرعان ما التف عليها، واستثنى فلسطين برسم وعد لَعُوب، وكان لا بدّ من توفير ولائم دم تستهدف الأطفال، وتدفع الساكنة للنزوح، لأنّها باتت معركة وجود.
كفاح الشعب الفلسطيني هو كفاح من أجل البشرية كلها وليس فقط من أجل العرب، فالسلام لن يتحقق في منطقة تعيش على منهاج الاستيطان، والنظام الدولي لم يعد قادراً على إخفاء سياسة الكيل بمكيالين. هناك أسلحة، بما فيها تلك الممنوعة، تستهدف المدنيين ليل نهار، بينما انهار جيش الاحتلال على أعتاب غزة، لأنّه لم يعد يثق بمهاراته القتالية حينما يكون على الأرض. بنك أهداف الاحتلال في غزة هم الأطفال والبيوت والمدنيون بشكل عام. وقد أكد الأمين العام الأممي أنتوني غوتيريش ما يقوم به الاحتلال، المسؤول عن انفجار الوضع في غزة، وهذا القدر يكفي لإدانة الاحتلال، غير أن الاحتلال في شخص وزير خارجيته يدعو غوتيريش للاستقالة، لأنّه يريد أن يكون العالم كله، بلا استثناء، شاهد زور على عدالة الاحتلال، وعدالة قضيته، حيث باتت للاحتلال قضية وعدالة استهداف المدنيين. هذا بالتالي يؤكد أنّ مصير العالم والقيم والقانون الدولي في ظل هذا المسلسل الاستيطاني والتدميري هو مصير مجهول.
الصورة باتت واضحة، لذا يكون من باب الخطأ الركون إلى أساليب التزييف والتحريف وإشغال الرأي العام بمعلومات زائفة وخلط الأوراق، لأنّ الاحتلال سهّل على الجميع الصورة النمطية لهمجيته. هذه لحظة تاريخية للخروج من الكآبة، فالشهداء اليوم أطفال، وهذا يرسم المستقبل الكئيب لاحتلال أثبت أنّه لا يصلح أن يكون ضمن الأسرة الدولية ولا أن تكون له دولة، لأنّ الدول التي تربّي المجتمع على التدمير وقتل الأطفال في المناهج التربوية، لا تصلح أن تدير اجتماعاً سياسياً.
خطاب التحرر اليوم يجب أن يدرك أنّ نهضة الشعب المحتل هي التي تحدد طبيعة الصراع. ومن هنا فالمشهد سيتطور باتجاه إنهاء الاحتلال أو أنّ مصير العالم سيؤول إلى التفكك. في منطق فيزياء القوة ليس للاحتلال أي قدرة على الصمود، لولا أنّه مجرد ثكنة لقوى امبريالية خططت لمحاصرة الشرق الأوسط، لأنّها تخشى من انبعاثه الروحي والحضاري. إنّها تلوح بالحرب ضدّ منطقة تناور كي تضمن الحد الأدنى من توازن الرعب. إنّ «طوفان الأقصى» واحدة من العمليات التي تؤكد أن مواجهة الاحتلال تفرض قواعد جديدة. فالمقاوم يعادل عشرات من المجندين المحتلين عديمي الخبرة القتالية ما عدا تدبير القتل من بعيد عبر التكنولوجيا الفائقة، المباحة على المحتل، والمحرّمة على شعب جُعل تحت رحمة الاحتلال.
ما قامت به المقاومة الفلسطينية، كان يهدف إلى إيقاف مسلسل التصفية المنهجية لقضيته العادلة. لقد كانت القدس تواجه التقسيم والتخريب، وقد سبقت إجراءات كثيرة استهدفت الأمكنة المقدسة ودنست بيت المقدس، ودخلت في مواجهة مع شعب أعزل. أقل ما ستفعله المقاومة هو الدفاع عن مسلسل القمع وفرض سياسة القهر واختطاف القدس. وقد ظن الاحتلال أنّه نجح في مغالطاته، وأنّه يستطيع أن يجعل العالم أداة طيعة في يده ليبتلع الحق الفلسطيني. «طوفان الأقصى» أكدت أنّ من يرسم مصير هذا الشعب هو المقاومة التي تعبر عن روح الشعب.
الخطاب الإعلامي الذي يتفنن وبجبنٍ، في نحت عبارات مضللة، كالحرب بين الاحتلال الذي يسميه باسم مغلوط وبين حماس، كأنّ الأمر يتعلق بتنظيم مسلح، وهذه مهزلة في الخطاب، لأنّ شعباً تحت الاحتلال لا بدّ أن تنشأ في حضنه قوة مقاومة شعبية، حدث ذلك في سائر الأمم التي خاضت معركة التحرر الوطني. وهذا الخطاب هو مناقض حتى لتصريح الأمين العام الأممي الذي يعتبر أن ما حدث هو نتيجة سياسة المحتل.
شيطنة المقاومة الفلسطينية تكرار لخطاب الاحتلال وليس إلاّ الاحتلال، هذا الأخير الذي يجهل أنّ مصيره مجهول، ومرتبط بمدى قدرة الامبريالية على استتباب الهيمنة المطلقة، ورهين بنظام عالمي كلاسيكي بلا أقطاب، ومرتهن للقدرة على تأمين نفقة الحروب الإمبريالية. حين تغيب الجيوش العربية تحلّ محلها القوى الشعبية، منطق لا يمكن أن يُستثنى من حركة التاريخ وسننه الخالدة.
كاتب من المغرب
اقرأ أيضاً: