الاحتلال السّائل.. أو الشجاعة من أجل الهزيمة
تشرين – ادريس هاني:
اختزال قضية الصراع في علاقة بين احتلال وتنظيم، مغالطة تعود إلى نشأة الكفاح الفلسطيني. كانت فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية تواجه التهم نفسها كمنظمة إرهابية في ميديا الاحتلال قبل الانخراط في مسار أوسلو. يتحاشى الاحتلال الوقوف عند جوهر المشكلة، ويراهن على القوة والسند الغربي اللامشروط، وذلك لتصوير الاحتلال كضحية أبدية.
كانت تلك هي الصورة التي ألفها الرأي العام، فطالت انتظارات الفلسطينين.
يظل الفلسطيني متهماً حتى لو كانت جثة أطفاله وأشلائهم تحت الأنقاض في حرب الإبادة التي يمارسها الاحتلال بكثير من الزّهو، هنا حين يتعلق الأمر بالاحتلال، فلا شيء محظوراً، حتى وإن تعلق الأمر بالقنابل الفسفورية. الاحتلال بطبيعته لا يحترم الأمم ولا شرعيتها الدولية، فماذا لو كان نظام آبرتهايد.
سيدرك الاحتلال ومن يدعمه بأسلحة الإبادة أن الحرب على غزة لن تكون مفتوحة، وأن قواعد اشتباك جديدة تفرض نفسها على احتلال فقد زمام التحكم بالحرب. غزة لن تكون وحدها، ما دام هناك محور يعمل في إطار وحدة الساحات. لكنه احتلال يروي عطشه بدماء المدنيين العزل.
ومع ذلك، توجد نوابت التضليل، وما أكثرها، تزرع اليأس وتزدري بإنجازات شعب مكافح. الازدراء ثقافة يقدحها شعور حاد بعقدة حقارة. بل سينقمون على شعب كونه أبرز مقاومته واختار طريق الكفاح وتجرأ على محتل. لقد باتت كلّ العناوين والسرديات المكررة بمثابة حرب على الصواب والمنطق والقانون، وهذه المعركة العبثية ضدّ المبادئ والقوانين والبديهة والوعي، مقصودة بذاتها، فهي دائرة مفرغة استهلاكية لا سقف لها. وهي قضية مرتبطة بقناعة أمّة، حيث الوضعية خرجت من سياقها السياسي إلى احتكاك حدود الصّدع العميق، حين تجاهل الاحتلال أن الاستهانة برموز وثقافة الإنسان الفلسطيني هو استهتار برموز وثقافة البيئة الإقليمية وامتداداتها العالمية. وفي الحرب الحضارية التي هي قدر احتلال يعمل كل ما في وسعه وقوته الناعمة والخشنة لكي يمحو عنه صفة الاحتلال، في مثل هذا النوع من الحروب، تصبح الهيمنة مستحيلة. وكان هنتنغتون قد أشار إلى استحالة تحقيق الهيمنة، وبأنّه من الضروري الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الثقافات وصدامها الحتمي.
مفارقة الاحتلال تكمن في أنّه نجح خلال العقود الماضية في تكريس مرض الهزيمة في العقل السياسي العربي. وعلى الرغم من أنّ هذه الهزيمة استفحلت وتضخّمت حتى شلّت الإرادة العربية وأضعفت قدرتها على المبادرة، إلاّ أنّ ثمة عناصر جيوسياسية لا يمكن تجاهلها: وهي الثقافة، والديمغرافيا. سيصبح الاحتلال مُرتهناً لمصيره القُوَّوِي ذي البعد الواحد، سيصبح مريضاً بالغلبة، وسيقوده ذُهان القوة والسيطرة إلى التّحلل الكيميائي، الذي سيجعل من صلابته المرتبطة بزمن فيزيائي محدد احتلالاً سائلاً -لو شئت المُضي في فكر السيولة لباومان- وقد تتراكم عوامل كثيرة، فيصبح في وضعية فوران(effervescence).
وللتذكير أيضاً، لا أحد يملك المزايدة على الشعوب العربية في موقفها الإيجابي من التضامن مع الشعب الفلسطيني المظلوم. المزايدة يعني تدكين القضية وصناعة أبطال من ورق. وحده الفدائي في ميادين التّحرر يملك الحق في المزايدة. صناعة النمور الوردية بخصوص القضية الفلسطينية، هي استهتار بالذكاء الجمعي لأمّة تعرف قواعد اللعبة وتقسيم العمل. لذا دائماً أتمنّى أن لا تتحوّل القضية إلى فرصة لتعويض الخواء التاريخي، وتحويل القضية إلى مرحلة استدراكية نكدة. لقد عودتنا الصحافة الصفراء على صناعة الأبطال الوهميين، وفرض التكرار الغبي الذي يُفقد الفعل النضالي والتضامني جمالية التنويع. من كان همّه التّصنُّك وإحصاء عدد البيض والدجاج في الأسواق بالمداشر البعيدة، يصعب عليه الاندماج في فضيلة النضال النظيف، ومن تربّى في عِشاش البُغاث وشرار الطير، يتعذر عليه الاستنسار وإن علا صفيره. فرويدك أو إن شئت: يا واش يا واش، لا تفسدوا علينا مشهداً جاداً، فالنار هناك حقيقة لا تمزح، فحذاري من تكرار لعبة الاستئصال.
عند كل واقعة تستعيد الشعوب تلك الذاكرة، ويغمرها ذاك الشعور. وعبثاً نحاول تغيير أحاسيسها تجاه ما ورثته جيلاً عن جيل. وإن كان هناك من استغنى بالمصلحة ليستهوي هوية أخرى، فلا يمكن غمر الشعوب بتلك الامتيازات. اليوم موقف الرأي العام الغربي يتنامى ضدّ الاحتلال، فأين يذهب الخراصون.
أقول، من يحاول اختزال القضية في قرار تنظيم لا كفاح شعب، يحاول تبرير شراسة الاحتلال ومعارفه ضد أهل غزة المكافحة. طبيعي أن الشعوب المكافحة تفرز طلائعها وتنظيماتها وأدواتها.
أعود إلى تلك الحقيقة التي لا بدّ من التذكير بها. إنّ قضية تسكن الذاكرة والشعور، يَصعُب السيطرة عليها، لسبب بسيط ، أنّها قضية شعورية، ولكنها غير قابلة حتى للتفكير. إن موضوع العلاقة بين الاحتلال وغريزة التحرر، موضوع غير قابل للتفكير، وبالتّالي أي تسوية تتجاهل جوهر المشكلة، ستكون حتماً سقوطاً في دوامة لا مخرج منها.
حُلفاء الاحتلال يطالبون الشعب الذي يقع عليه الاحتلال، باكتساب الشجاعة الكافية للتنازل والاستسلام، دعوة مفارقة فائقة: الشجاعة من أجل الهزيمة!؟.. من يا ترى يقبل ذلك؟.. حتّى القُراد لن يقبل.
كاتب من المغرب