المقاومة فرضت شروطها

تشرين- إدريس هاني:
للدّولة تاريخ ومسار خاص في النّشأة والتّطور، وهي حسب توماس هوبز نشأت لكي تبقى ما بقي الجنس البشري، لكن ماذا عن كيان احتلالي سقط من خُرافة نكدة، ونشأ داخل منظمة، ولم يُفرزه التدافع بين الناس، الذي يفضي إلى عقد اجتماعي?.
ففي تاريخ نشأة الدّول نبدأ بالصراع لننتهي إلى السلم المجتمعي. أطراف الصراع السابق للعقد يضمهم حيز بكل ما يرمز إليه مفهوم الحيز بالمعنى السياسي والجغرافي. لكن الاحتلال يبدأ بالحرب ويستمر فيها، لأنّه لا يوجد أفق سياسي للاحتلال، كي تنطبق عليه الفكرة الأثيرة لكلاوزفيتش، أنّ الحرب هي استمرار للسياسة بكيفية أخرى. ففي مثال الاحتلال، تُصبح الحرب بلا أفق سياسي، أي همجية خالصة.
في مثال الكيان الصهيوني، الذي مكّنته القوى العظمى من المضي في سحق شعب أعزل، بات مؤكّداً أنّ الاحتلال أعاد إنتاج المنهجية النّازية في الإبادة داخل الأراضي المحتلّة. إنّه جيش مدرّب على تدمير البنى التحتية وقتل المدنيين.
فقد الاحتلال الكثير من الامتيازات الجيو-ستراتيجية، لعلّ أهمها امتياز احتكار التحكم بمبادرة الحرب ومسارها. فكرة الحسم لم تعد ممكنة في الأجيال الجديدة للحرب. كما أنّ نمط الحرب الخاطفة انتهت في حرب تشرين/أكتوبر التي أخفتها مُعاهدة السلام بين السادات ومناحيم بيغن. كما فقدت امتياز احتكار وسائل العنف الاستراتيجية، لا سيما السيطرة الجوية مع ظهور القوة الصاروخية وسلاح المسيرات. لقد تمّ تحييد فكرة الاكتساح البرّي وأجهزة الرادار المتطورة والقبة الحديدية فضلاً عن الميركافا.
لم تعد المقاومة مجموعات منظمة تنظيماً تقليدياً، بل باتت تكتسي القوة التنظيمية للدّولة، كما باتت لها جهوزية خوض حرب كلاسيكية. وعند مقارنة أداء المقاومة اليوم بما كان عليه وضعها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، سنجد أننا إزاء طفرة يمكن أن نسمّيها: الجيل السابع للمقاومة. فالجيل الأول يمتد من 48 حتى 73 كما يمتد الجيل الثاني من 73 حتى نهاية الثمانينيات، والجيل الرابع من نهاية الثمانينيات حتى 2000، ويمتد الجيل السادس من 2000 حتى 2006، بينما الجيل السابع يبدأ من 2011 حتى اليوم. اكتسبت المقاومة تكويناً في شتى مستويات الحروب الجديدة بما فيها الأمن السيبراني والحروب الاستخبارية الفائقة. خلال العشرية الأخيرة دخلت المقاومة في حروب نوعية، واكتسبت خبرة كبيرة في المعارك الكبرى والمعقدة.
مقابل هذا التطور النّوعي، طالت انتظارات شعب الكيان الذي دبّ فيه الخلاف مع صعود أحزاب يمينية ومنظمات دينية ظلت حتى حين أضعف من التيارات اللا دينية-الصهيونية. لم يلعب التحول الديمغرافي في صالح تلك الطبقات السياسية، وبات الاحتلال عش دبابير التطرفات التي تنذر بتفكك كيان لم يعد قادراً على لمّ شتاته. وقد شهدت الآونة الأخيرة انفجار النسيج الاجتماعي الصهيوني، وشمل الخلاف المجتمع والسلطة، بل السلطة والسلطة، ما جعل الكيان يتحلّل تدريجياً، حيث يواجه تحلل العقد الاجتماعي الصهيوني، والانتقال من تقسيم السلطة وتكاملها إلى انفراطها وتضاربها، حيث تم توقيع عريضة من 440 قائداً سابقاً في جهاز الأمن والجيش لمعارضة خطّة إصلاح القضاء.
جاء طوفان الأقصى ليعمّق هذا الشّرخ. ذلك لأنّ مناورات نتنياهو لن تنجح في تصدير الأزمة، واغتنام فرصة تدهور الوضع الداخلي لإعلان حرب مفتوحة على غزّة. فلا زالت انتقادات المعارضة تُّحَمِّل حكومة نتنياهو تبعات طوفان الأقصى.
ماذا عن الموقف العربي؟

لا أحبّذ الأسلوب الانفعالي حين أتحدّث عن الدول، فهي كائنات تعمل على قاعدة المصالح الصلبة والسائلة معاً، وتبقى المشكلة بالنسبة للدولة-اللِّفياثان (الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة) هو في مدى استيعاب قواعد لعبة الأمم، حيث هناك تظهر مهارات الدّول وسياساتها. كان الاحتلال الصهيوني يسعى لاستغلال تناقضات الوضع العربي، ودخل على خطّ تأزيم المأزوم، وكانت الغاية من محاولاته تلك هو عزل الشعب الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية. لكن تناقضات الاحتلال داهمته، فكانت عملية طوفان الأقصى قد أعادت القضية الفلسطينية إلى وضعها الطبيعي كقضية أولى وأساسية للعرب وللعالم الإسلامي. ووجب أن أوضح شيئاً مهماً بخصوص سؤال الأولوية. ذلك لأنّ الخطاب الذي تمّ الترويج له، هو أنّ القضية الفلسطينية هي في مرتبة ثانية، وذهب بعض المتصهينين الذين جهلوا قواعد اللّعبة، إلى شيطنة الاهتمام بالقضية الفلسطينية بحجة تزاحمها مع الأولويات الوطنية. إنّ إقحام الوطنية في هذا اللجاج، هو ضرب من المُغالطة الغريبة على المزاج السياسي العربي والإسلامي والإنساني الحر، لأنّ قضايا التحرر في العالم غير قابلة لمغالطة المقارنة وإقحامها في الأولويات الوطنية. إنّها مسألة تتعلق بالمسؤولية والضمير الإنساني، فضلاً عن أنّ فلسطين هي في الوجدان الإقليمي قضية تفوق كونها جغرافيا مجردة، بل هي تجسّد شعرية المكان الخالد في خيال أمّة، جغرافيا روحية وثقافية، وهي فضلاً عن هذا وذاك، موصولة بالضمير الجمعي، بالكرامة، بنسق دلالي.
وهذه العناصر كلّها تجعل من المعركة أبعد حتى من أن تكون معركة تحرر وطني مجرد، بل هي مواجهة حضارية.
لقد التأم وزراء الخارجية العربي في القاهرة في إطار جامعة الدول العربية لمناقشة الوضع الصعب في غزّة. وغير مهمّ ما جرى في الاجتماعات التي سبقت بيان الجامعة، لكن تبين وجود هامش أكثر لاستعمال عبارات مقبولة إلى حدّ ما، الشيء الذي يؤكد على أنّ طوفان الأقصى منح بعضاً من القوة لبيان جامعة الدول العربية. وطبيعي أنّ هذا البيان لم يكن في مستوى انتظار الرأي العام العربي، ليس من حيث إنه لم يرقَ إلى سقف المطالب المنتظرة، بل لأنّ المتوقع من بيان جامعة الدول العربية هو أن يكون أضعف من هذا القدر، بلحظ الهشاشة التي يعاني منها العمل العربي المشترك. يؤكد هذا على أنّ المقاومة الفلسطينية لعبت دوراً أساسياً في تمكين الجامعة العربية من صياغة بيان يدين الاحتلال ويسميه باسمه، وهذا القدر المتواضع منطقي في شروط انهيار النظام العربي الرّسمي. هذا في الوقت الذي يستعد محور المقاومة لخوض المواجهة في أسوأ الحالات ودون الحاجة إلى موقف عربي موحّد. وهو الحرج الكبير الذي قد يحصل في حالة ما نشبت الحرب الكبرى.
ولقد كان متوقّعاً أنّ المقاومة وحدها في عملياتها النوعية تستطيع تحرير الموقف العربي الرّسمي من ضعفه. فالمساحات التي تتحرك فيها المقاومة هي أوسع مما هو متاح للدّول العربية. بالأمس كانت الجيوش العربية هي التي تخوض المواجهة، واليوم المقاومة الشعبية هي التي أمسكت بزمام المبادرة.
وقد جاءت ردة فعل المجتمع الدولي متفاوتة. ولم يكن من الغرابة في شيء، مواقف الدول الغربية، بل لا أدري لماذا يُكثر المراقبون في الجدل حول هذا الموقف أو محاسبته بمبادئ القانون الدّولي. لقد أكدنا مراراً أنّ السياسة الدولية غالبة وحاكمة على القانون الدولي. وأنّ الحلف الغربي هو أكبر منتهك للقانون الدولي، لا سيما حين يتعلق الأمر بفلسطين. التلويح بالأساطيل والتدخل في المنطقة، هو نمط من الحرب النفسية، لأنّ التدخل سيوسع من مساحة الحرب، والغرب عاجز عن تمويل حرب طويلة الأمد إلى جانب حرب أخرى لا زالت مفتوحة في أوكرانيا. ينظر الغرب إلى الراحة البيولوجية الصينية في الوقت الذي ستستنزفه بؤرتين: أوكرانيا والشرق الأوسط. كما أنّ استراتيجيا توحيد الساحات والتنسيق الجاري بين قوى محور المقاومة، سيؤدّي إلى حرب استنزاف. حرب معقدة من هذا المستوى لن تؤدّي إلى صفر مشكلات ولا فتح الآفاق، بل ستفتح المستقبل على حروب مستدامة.
ما هي السيناريوهات؟

مرة أخرى تبدو مؤشّرات الحرب القادمة ذات طابع تلويحي، فلقد أفشلت المقاومة كل أشكال الحرب المركبة، وخضعت لتكوين منهجي مكّنها من تجاوز آثار الحرب النّفسية. بقدر ما يتجه مجتمع الاحتلال للتفكك، يتجه شعب المقاومة للانصهار والتوافق أكثر. شعب يفقد الثقة في مصيره ومستقبل كيانه، مقابل مجتمع بات أكثر إيماناً بقضيته ومقاومته. هناك جهوزية كاملة لدى هذا المحور، أمام حرب يدرك الاحتلال خطورتها، لكن محور المقاومة جهّز لها عناصر الصمود طويل الأمد. لم تترك المقاومة للاحتلال خياراً آخر. فالتلويح بالأساطيل هي محاولة لرفع أسهم التسويات القادمة، والتي سيكون فيها للفلسطيني حظوظاً أكبر بفضل مقاومته وصموده. أمّا عن التطبيع، فإنّنا منذ فترة لم نهدر الطاقة في مناقشته، بل ما يحدث في الواقع هو شكل من «سبعة أيّام من التّين» حسب المثل الدارج عندنا (سبع أيام تبع الباكور) ستذيبها عوامل التعرية الجيوسياسية تدريجياً. وقد كتبنا ما يكفي لبيان أنه خيار مستحيل، نظراً لمناقضته لمنطق الأشياء، هذه الاستحالة نابعة من بنية الاحتلال وتكوينه.
كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار