ماذا بعد الطوفان؟

تشرين- إدريس هاني:

في هذا الوقت العصيب، يجب أن يدرك كل إنسان  مهمته بجدية أكبر، لأن هدر الزمن والطاقة والوعي يُعيق مسار الانتقال إلى ما هو أعمق وأرقى في النظر والعمل، وعليه، ليست مهمّتي أن أنقل البيانات والأخبار، فتلك مهمّة من ينقلون الخبر من عين المكان في وقته المناسب. ولقد قاموا بالواجب كما ينبغي، كما ليست مهمّتي أن أتكهّن بالآتي، فليست لديّ المعطيات التفصيلية لكي أرسم خرائط عبثاً، لإدراكي المسبق وتجربتي وحدسي، بأن الأسواق العشوائية يكثر فيها الضجيج والفوضى، كما ليست مهمتي إعادة تمثيل المشهد بالمراسلة، فتلك مهمّة الفدائيين، ولو كان ذلك مُتاحاً لرأى منا الرائي عجباً، فمهمّتنا هي إذن العمل على إنماء الرؤية وتحليل الحدث وبناء التوقع على مؤشّرات حقيقية، وشحذ أدوات أكثر مضاء لتفكير الحدث وتأويله، إنها من أساسيات تقسيم العمل ونظم الأمر، وقد عطفه علي الإمام بن أبي طالب على التقوى:(بتقوى الله ونظم أمركم).
لعلّ الملُاحَظ اليوم، هو عدد من المقاربات والسيناريوهات المُتخيّلة التي تقوم على لعبة الربط بين الأحداث، وهذا أمر مطلوب في التحليل السياسي، لكن ليس ربطاً جزافياً أو متخيلاً، بل ربط يتيح بناء فرضية، هي مبتدأ التحليل وليست نهايته. عملية التحليل السياسي هي هنا أشبه ما تكون بعملية استدلال رياضي، يجب إدراك مجاهيل المعادلة في مختلف درجاتها، هذا يعني أن لانخلط بين الافتراض-وهو المبتدأ في اختبار الفكرة- وبين النتيجة التي هي استنتاج، لا يكفي معه القول: إنّني أرى، بل لا بدّ من الروية في تبيان المقدمات التي تسبق الاستنتاج، ولا يكون الإقناع بالإيمائية المفرطة، بل بالاحتجاج القويم، فالمدار في التحليل السياسي كما في التاريخ، هو على الدليل والوثيقة.
في مثال عملية طوفان الأقصى، ظهرت عجائب وأحجيات بل وتفاهات، لكن عند التحليل، يظهر الموقف النفسي الذي يعكس شيئاً من اختلال في مسار عقدة حقارة، أقول اختلالاً، تماشياً مع المنظور الأدليري لعقدة حقارة التي أرى أن آدلر قد أنزلها منزلة عقد أوديب عند فرويد، من حيث إنها مسار طبيعي ما لم يقع فيها الاختلال إياه، حيث يُرتهن السواء النفسي – كأفراد وجماعات وحتى أمم- لنجاح هذا المسار، إنّ الشعور بالدونية هو في الوضع الطبيعي محفّز للكمالات، لكن الذات العربية التي أدمنت الهزيمة، باتت تعاني من اختلال في صميم هذه العقدة التي انقلبت إلى فاعل سلبي، أي الأُنس بالهزيمة والتشكيك في قدرة الذات على التجاوز والتسامي.
تقول السرديات العجلاء: إنّ ما حصل هو ناتج عن إرادة العدو في استدراج المقاومة لفعل، يترتب عليه حرب إقليمية يريدها العدو، وأنّ المقاومة وقعت في الفخ، وكانت ضحية غباء، ذلك لأنّ هذا الرّهط من القِرَائِيِين، يَصعُب انتزاع – من رؤوسهم – فكرة أن العدو كائن له ماله من نقاط الضعف، وأنه يغفل، ويجهل، وينام، ويتعب، ويألم، ويمرض، كما يَصعُب إقناع مرضى الهزيمة، بأن هذا الصنيع هو ابتكار وعمل لشباب تلك الأرض التي بان فيها الكفاح حتى طال واستطال، إنّ عُصاب الهزيمة المزمنة، يُراد له أن يكون ميراثاً تاريخياً لأمّة بكاملها، كنا مراراً نراهن على الطفولة باعتبارها غير معنية بتاريخ الهزيمة، وإن كانت التربية على الهزيمة باتت منهاجاً مقرّراً في العقل السياسي العربي المُعاصر.
وثمة سردية تذهب ناحية شيطنة المقاومة، عن طريق ربطها بمن هم في المعجم السياسي للاحتلال: محور الشّر. هنا يلعب الاختزال دوراً كبيراً وربما ساهم الجميع في لعبة الشيطنة تلك ردحاً من الزمن، لأنها كانت خدعة للنفس طالت وتورمت، وما دَرَوا أنّ الزمن سيدور وسيقفون على ما كنّا نقوله قبل ثلاثين عاماً ونيّف على الأقل. ترى هذه السردية أنّ إيران متواطئة مع الاحتلال، ثم تذهب «عبقرية» الرّبط بين الأحداث للقول بأنّ الإفراج عن الأرصدة الإيرانية في البنوك الأمريكية، هي لتمويل شيء من لعبة الأمم في مستوى رفيع من اللعب لا يدركه إلاّ مجانين التخريف السياسي، هذا يذكرنا بخرافة أنّ إيران نفسها متواطئة مع الأمريكان، وهي والاحتلال أصل الشرّ والتدخل في المنطقة، كما لو أن «فارس» دخيلة على المنطقة، وقد تبين أنّ كل هذا المارستان من التحليل السياسي الكيدي والتبسيطي، أصبح شكلاً من القمامة النظرية التي كلّفت المنطقة الكثير من الأعطاب وخوض الحروب الخطأ.
الشيء المهمّ في طوفان القدس، أنّها ركلت هذه السرديات، ووخزت الذات الجماعية عساها تستعيد الذاكرة، وتصحح المعجم اللفظي، وترى الأشياء كما هي، وهذا ما نريده من أبناء الأمة، لقد أظهرت أنّ ثمة إمكانية لجعل العدوّ لا يعرفك، ابتكار أساليب جديدة تتجاوز كل مهارات الاستشعار، كنت دائماً أرى بأنّ فنّ الحرب يستند إلى قوة الحدس والذكاء، وأنّ التكرار خطأ لاسيما حين يتعلق الأمر بطرفين في الصراع غير متكافئين، وجب أن تكون المقاومة أسرع وأذكى وأكثر حدساً لمُمْكنات فعل العدو.

ثمة خطاب فائق للإرعاب، حرب نفسية بالغة تصيب الوعي في الصميم، المعركة تشتد وهذا متوقع، والاحتلال الذي ارتهن لقوته المفرطة، يبدو في وضع هستيري. العَودُ الأبدي لقصف المدنيين، وكل هذا لا تأبه له الأمم المتحدة ومكونات النظام الدولي، الذين ابتلوا بالقياس في تحليل العلاقات الدولية، يعيدوننا إلى الـ11 من سبتمبر/ أيلول، وملحمة استعادة الهيبة بالتدمير، لكن ما تدركه الأطراف الكبرى في هذه اللعبة، هو أنّ خرق قواعد الاشتباك في هذا السياق الشديد الحساسية، يعني بداية حرب عالمية ثالثة لا محالة.
إنّ احتواء غزّة يعني التقدم على طريق احتواء جيوب الهارتلاند، فالشرق الأوسط في نظر روسيا والصين، حلبة نزال على عتبة أوراسيا، لا توزن غزّة بالطول والعرض الجغرافيين، بل بثقلها الجيوسياسي، وهذا ما جعل بعض البيانات الدولية تحثُّ على اجتماع طارئ لمجلس الأمن.
كان مُنتظراً، بل هذا هو الرهان، على أنّ سياسة الاحتلال في احتواء المنطقة عبر تقديم نفسه كقوة فريدة مادياً ورمزياً، هو انطلاق انتفاضة فلسطينية وعمليات للمقاومة، لأنّها وحدها، ووحدها فقط، توقف مسار التسويات الخاطئة. لن تردع الأنشطة المدنية ما يحدث، في غياب انتفاض الشعب الذي  يعاني من ويلات الاحتلال، هو من يحبط كل محاولات تصفية القضية الفلسطينية، ويفرض العودة إلى المربع الأول لشرعة المقاومة.
قد تلعب القضية الفلسطينية دوراً في الرفع من مستوى الوعي بالتضامن والوحدة بين الشعوب العربية والمسلمة، بل الشعوب قاطبة، وربما في الميدان الفلسطيني تنامى هذا الشعور أكثر مما يحصل في الخارج، حيث مازالت الحسابات السياسية والأيديولوجية والدينية والطائفية تلعب دوراً كبيراً، ولمّا تخرج الصدور بعد أثقالها من الحساسيات التي تلخص تخلف أمّة غير متصالحة مع نوازلها، لأنّ الخطر الذي مازلنا ندعو إلى نبذه من دون تبرير أو تلكّؤ أو التي واللتيّا، وبشجاعة الفرسان، هو تدكين القضية الفلسطينية، وجعلها موضوع احتكار لدى الكثير ممن هم مخطئون لا محالة، بل مسرفون حدّ تيئيس الكثير من النخب في الانخراط في مسؤولية التضامن. والإصرار على هذا السلوك، ليس فقط مُضراً بالقضية، بل هو أصل الدّاء. فالتجرد والإيمان الحقيقي بالقضايا العادلة، يجب بلا مواربة، أن يُحفز على الإنصاف وتفادي العصبية البدائية والمظاهر الاستعراضية والمزايدات، والتشبع بفضائل الشخصية المناضلة النّقية غير المطوّقة بحسابات صغيرة.
ويبدو أن من أعطاب التحليل ما يتعلق بمن يصلح أن يطلق عليهم المهرولون، أولئك الذين يتحدثون بخطاب يتجاوز الموقف الرسمي للاحتلال نفسه. من يتحدثون نيابة عن الشعوب، وهي أسمى أشكال المغالطة. وهذا النوع من الخطاب يؤكد، ليس فقط على ذوبان في أجندة الاحتلال، بل هو موقف يناقض الوطنية بامتياز، فضلاً عن أنّه استهتار بمن لم يوكّلهم للنطق باسمه. أذكر يوم قال لي المرحوم مهدي المنجرة عند ظهور قصيدة «المهرولون» لنزار قباني، إنني أعتبر أنّ حدثين مهمين عرفتهما هذه السنة: قصيدة المهرولون لنزار قباني، وفوز نجم الدين أربكان. لا شكّ أننا اليوم نعيش وضعية الهرولة، وبالفعل، إنّ المهرولين كثروا «اليومين دول».
الحرب إن شئت القول، هي حتمية في منطقة وجب القول بأنّها أكثر تعقيداً. فللمحتل نبوءاته، ولكن أيضاً لشعوب المنطقة نبوءاتها. وأقول بشأن معضلة التنوع والاختلاف، فهذا طبيعي عند العقلاء، الاختلاف حقيقة في السلم والحرب، ولكن لا بد من وجود قضية متعالية تحتوي الخلافات الصغرى، وربما فرصة الأمة اليوم هي فلسطين، ذخيرة من شأنها أن تغذّي الوئام، وتكشف عن مشاعر الالتحام، وتقوض العصبية، وتخفف الشّنآن، إن فلسطين هي البوصلة، هي المستقبل، هي المعنى، بل هي المنقذ من الضلال.
كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار