راهن الاحتلال ومستقبله من منظور رجيس دوبريه وماريك هالتر
تشرين – إدريس هاني:
لا بد من معرفة موقف الإنتلجينسيا الغربية من القضية الفلسطينية، وأن نعرف عن طبيعة الرؤية والشروط التي تفرض نمطاً معيناً من التحليل، هو بالأحرى ما يساهم في تكوين صورة عن المسألة الفلسطينية لدى الرأي العام الغربي والنخبة المثقفة والطبقة الحاكمة في عملية صنع القرار، هذا القدر من الاستيعاب يساعد على تحليل الوقائع، وكيف يمكن لعمليات المقاومة أن تمزق ذلك الحجاب السميك من «التّورخة» الخاطئة ولا حتى «الأنسنة» المضللة التي تستعمل كمغالطة في تجاهل الحق الأصلي لمن وقع عليهم الاحتلال، كيف يفكر هؤلاء بقضايانا، وحيث التضليل لا يترك مساحة من تلك المساحات، بل أحياناً تلتقي الأطراف كلها، لأنّ هناك نموذجاً للتفكير تمّ فرضه ليكون هو الأرضية المشروعة للنقاش، فالخلاف أحياناً يكون داخل الرؤية نفسها، تلك الرؤية التي ما زالت – في منتهى ما تصبو إليه – تتطلّع إلى حالة من الاندماج.
وثمة كثر يجهلون هذا الاختلاف، والبعض يفضّل التعصب ضد مواقف لا يدرك في أي سياق ومسار يجب أن توضع، وطبعاً، نعني هنا المثقف العضوي الذي انخرط في الحركة الحقوقية والتحررية لبلدان كثيرة، ولا نتحدّث عن المثقف غير الآبه، إن لم نقل الخائن لقضايا المجتمع.
إنّ تأمّل موقف المثقف هي قضية أساسية، لأنّه مصدر كل الأفكار، سواء الإيجابية أم السلبية، من قضايا الإنسان والأمم، فالمثقف هو من يصيغ مفاهيم التاريخ والاجتماع والصراع والسياسة، لا يمكننا مواجهة وضعية احتلال مدين للمثقف والبحث العلمي بحُثالة من الأفكار الجامدة أو شعارات انفعالية ركيكة، هناك من يُؤثر خوض معركة معقدة برؤية مبسّطة للصراع، وبأدوات استشرافية ضعيفة، بالانفعال وليس بالوعي التاريخي والاجتماعي الضروريين.
في هذا النص الذي حاولت تلخيصه وترجمته والتعليق عليه، نقف على أسئلة تجد جوابها فيما يجري اليوم في جيوب غزّة، وانفجار الوضع بشكل مختلف عن الأساليب القديمة، هناك، ليس فقط الاحتلال، بل المنطقة كلها على حافة اندلاع مواجهة كانت منتظرة، لأنّ الاحتلال ظنّ أنّه ربح كل الجولات واستهان بقدرة الشعب الفلسطيني على ابتكار أساليب الردع، العنف الذي بات ملازماً للاحتلال ضدّ الشعب الفلسطيني أصبح مرتهناً له، فالفرص التي يتحدث عنها النص، لم تعد ممكنة، ثمة شعب مُحتل، ولا يمكن أن توجد لغة أوضح من هذا لوصف وضعيته، العالم ينتهك منطقه ومعجمه اللّفظي حين يكون أمام مأساة الشعب الفلسطيني.
يتعلق الأمر بنقاش أداره باسكال بونيفاس، تحت عنوان: هل الحوار ما زال ممكناً في الشرق الأدنى؟ ونشر في المجلة الدولية والاستراتيجية (Revue internationale etstratégique) عام 2008 في عددها رقم 71، بمشاركة كل من رجيس دوبريه، الفيلسوف الغني عن التعريف، وماريك هالتر اليهودي البولندي الأصل الفرنسي النشأة، والذي أسّس الكلية الفرنسية بموسكو غداة سقوط الاتحاد السوفييتي.
متاهة أخرى في الرؤية، تؤكد أنّ الاحتلال نجح في إدخال المسألة الفلسطينية في لبس عظيم، وهذا اليأس الذي لم نعهده عند رجيس دوبريه نفسه، حين نظّر في «ثورة في الثورة» وأقام في سييرا مايسترا، حين كان يرى في تلك المجموعة من الثوار الذين يقودهم فيديل كاسترو وتشي غيفارا مثالاً، كلّ هذه الحماسة تكسرت على صخرة القضية الفلسطينية، يكفي كما فعل سارتر في اللقاء المشهود بحضور إدوارد سعيد، يكفي تمجيد «اتفاقية السلام» وتحميل الفلسطينيين وزر هذا التعقيد الذي افتعله الاحتلال.
يسأل بونيفاس رجيس دوبريه عما إذا كان ممكناً اعتبار أعمال الأخير تجسد تشاؤم العقل، بينما يمكن اعتبار ماريك هالتر يجسد تفاؤل الإرادة، وكان جواب رجيس دوبريه بأنه لا يملك حماسة وفضيلة الأمل اللتين يتمتع بهما ماريك هالتر، ولأنه أكد أنه لا يملك الإيمان، فهو ينظر بتشاؤمية مفرطة إلى ما آلت إليه الأمور في الشرق الأوسط، أو بتعبيره: «إنني مضطر للحديث عن الطريق المسدود الذي آل إليه الشرق الأوسط».
إن كان دوبريه مثل كثيرين ألمّ بهم التشاؤم، فإن ماريك هالتر يتحدث عن تفاؤل من جنس آخر، تفاؤل بنضال محتلّ، يصبح فرض واقعه التاريخي بمنزلة تحقيق السلام، لا نستعجل، لنرَ ماذا يقول هالتر، كمثال لنوع آخر من المثقفين الذين يفكرون تبعاً لرهانات القوة وليس المبدأ، فهو يتفق مع ما ذهب إليه دوبريه، اتفاق كلام فحسب، لأنه سيردفه بـ«ولكن»، العبارة التي تقتضيها المجاملة، هو يرى بخلاف دوبريه أنه يضع نفسه في منظور تاريخي، وهو يشير إلى احتفال – يومئذ- «إسرائيل» بعامها الستين لإعلان «استقلالها»، بينما يضيف: «وتكمن مأساتنا في نفاد الصبر الذي يولد التشاؤم»، وجب في نظره أن نميز بين التاريخ الشخصي والتاريخ العام، لأنّ «60 عاماً هي بمنزلة فترة زمنية تاريخية قصيرة جداً، وبالتالي، فإن كل ما حلمنا به لا يزال من الممكن تحقيقه».
في حفنة من الجمل، تسكن غابة من المغالطات، ذلك لأنّ الحديث عن التاريخ العام في موضوع احتلال لم يركن الأهالي فيه إلى الاستقالة، بل هو ميراث جيل بعد جيل، يؤكد أنّ هارتر خارج التّاريخ وفلسفته، فهو يتحدث عن زمن من المواجع، يؤكد أنّ ثمة إصراراً على استدراج وإرشاء التاريخ، قصد إبداء شهادة زور على الاحتلال، كيف نجعل من محتل يحتفل بذكرى استقلاله؟
يعود بونيفاس إلى رجيس دوبريه ليعمق السؤال حول جدل الواقع والإسقاط التاريخي، ليأتي الجواب غاية في التشاؤمية، وهي مغالطة أخرى، حيث ما يمكن اعتباره انتصارات المقاومة وإفشالها سياسة الإخضاع، يعد قضية مأساوية. لذا يرى دوبريه الذي فقدَ تفاؤلية سييرا مايسترا، بأنّ الوضع لم يعد ممكناً لإنشاء دولة فلسطينية، يبني دوبريه ملاحظته تلك على سؤال: كيف يمكن إزالة 400 ألف مستوطن يعيشون في القدس الشرقية والضفة الغربية، لا يمكن تصور الأحداث الكبرى العنيفة التي ستحصل، اليوم بتنا أمام منطق الضم الواضح بدل القضم، وسوف ينعى الموقف الرافض لخطة السلام العربية باعتبارها فرصة، بل اعتبرها بديلاً مناسباً لأمن «إسرائيل».
أشار دوبريه إلى الانقسام الفلسطيني وأيضاً إلى كون السلطة الفلسطينية أصبحت بمنزلة هيئة فرعية للغرب، وذلك بالحديث عن وجود قوى في المنطقة ما زالت لا تعترف بوجود هذا الكيان. صحيح أن الذين كانوا يرفضون هذا الكيان تغيروا، لكن التهديد باقٍ.
غير أن هالتر سيُبدي خلافاً مع دوبريه حول وجوب اندماج «إسرائيل» في المنطقة، وهنا يكشف هارتر عن رؤية غريبة هي جوهر الإيديولوجيا الاحتلالية، يقول: «إن فكرة وجوب اندماج إسرائيل في المنطقة لا علاقة لها هنا، نظراً لأن البلاد مندمجة وتتمتع بشرعية تاريخية كبيرة, لا يمكننا المقارنة بين إسرائيل ومملكة القدس المسيحية». لم يغادر اليهود المنطقة قط إلا في عهد النصارى، حين أبادوا اليهود في القدس واختبأ آخرون في الجليل، تحدث شاتوبريان، قبل قرنين، بعد أن أقام في القدس، عن الشعب اليهودي باعتباره «السيد الحقيقي لهذه الأماكن»، لقد ظلت مدينة القدس دائماً، منذ الملك داود، مأهولة بشكل رئيسي باليهود.
يبدو دائماً ومن خلال تفاصيل أحاط بها الاحتلال نفسه منذ مؤامرة التأسيس لحركته، أنّ الرهان على القوة لا يتهدد الجغرافيا وحدها، بل يقضم التاريخ أيضاً، ويفرض عليه خيال المحتل.. وهالتر بهذه المقاربة المنحولة يُغالط التّاريخ ويُغالط أيضاً بالتاريخ.
يؤكد رجيس دوبريه في هذا النقاش أنّ وجود سلام رسمي بين «إسرائيل» وبعض الدول كمصر والأردن، هو سلام غير دافئ. المسألة في نظره أن «إسرائيل» باتت مقبولة من دول المنطقة لكنها غير مندمجة.
من جهته، يرى هالتر أنّ هذا الوضع لن يبقى هكذا، ويلجأ إلى قياس مفارق بين فرنسا وألمانيا، كما طالب بالحوار مع «الأعداء» وليس فقط مع الأصدقاء، حيث يرى أنه «علينا خاصة أن ننفتح على سورية، وقد كنت من أوائل المؤيدين للحوار المباشر مع الرئيس بشار الأسد، حيث إذا كان الحديث فقط مع الأصدقاء، فلن تستطيع الحديث كثيراً، يجب أن تتعلم التحدث إلى أعدائك».
يشير أيضاً إلى الخلاف بين اليهودية والمسيحية في موضوع الحب، فهو يفضل الاحترام على الحب، يحيل على فرويد: لماذا أحب شخصاً يريد قتلي؟ لذا يقول إنه لا يطلب من دول المنطقة وشعوبها أن يحبّوا «إسرائيل»، بل يؤكد على الاحترام المتبادل للبحث عن سبل التعايش، من هنا يطالب «إسرائيل» بمساعدة الفلسطينيين لتأسيس دولة خاصة كخطوة ضرورية أولاً وقبل كل شيء.
غير أن دوبريه يُعقب بأنّ الحديث عن الاحترام كأساس بدل الحب، هو أساس مثالي، لكن كيف يمكن في نظره حلّ مشكلة الاحتلال؟ كيف يمكن ممارسة الضغط الأممي على الكيان، بل لا يرى دوبريه «أحداً في الوضع المناسب للضغط على إسرائيل اليوم، لا الولايات المتحدة ولا أوروبا»، ذلك بسبب أنّ الولايات المتحدة في نظره هي، واقعياً، مرتبطة لاهوتياً وعاطفياً بالشعب العبري، حيث يعتبرون أنفسهم امتداداً لتاريخه بوصفهم شعباً مختاراً جديداً. هذه الروابط في نظر دوبريه نابعة من اللاّوعي اللاّهوتي، ومن هنا فإنّه يرى من الناحية الرمزية، أنّ «الولايات المتحدة مستعمرة لإسرائيل وليس العكس»، هذا بينما ينظر إلى أوروبا بوصفها تعاني من الشلل بسبب المحرقة، إذاً لا أحد يبدو مستعداً، في نظر دوبريه، لفرض شيء على الاحتلال، ويقول: «أحيانا يجري الحديث عن إنشاء قوة تدخل عسكري دولية على الحدود الإسرائيلية – الفلسطينية، هذا إن كانت أصلاً هناك حدود، لكن من هو هذا الأوروبي الذي قد يجازف بإطلاق النار على إسرائيلي.. هذا أمر مستحيل التصور»، إضافة إلى ذلك، يرى دوبريه استحالة تقسيم فلسطين أو تشكيل الدولة الفلسطينية حين نأخذ بعين الاعتبار خريطة المناطق من الطرق والأنفاق وتجميع المياه، هناك لا توجد سوى جيوب فلسطينية في فلسطين، حسب دوبريه.
يواصل دوبريه رفض فكرة الدولتين لأسباب، كما لا يرى في معضلة الديموغرافيا خطراً ما دام التوازن الديموغرافي عاد إلى المستوطنين، حيث ارتفع منسوب الولادات إلى حد عُدّ من أعلى المعدلات في العالم، لذا يقوض دوبريه فكرة أن النمو الديموغرافي الفلسطيني سيكون ضاراً بالإسرائيليين، لكن دوبريه يصرح بأن التعايش بين الدولتين أمر ممكن، كما يرى أنّ «الدولة ذات القومية المزدوجة، مفارقة اصطلاحية»، ذلك لأن اليهود الذين سعوا إلى إنشاء دولتهم، لن يقبلوا بأن يصبحوا أقلية خلال خمسين عاماً قادمة، من هنا تشاؤمية دوبريه بخصوص مستقبل المنطقة، ويرى أيضاً أنّ وجود أشخاص، يصفهم بغير العاديين، مثل هالتر نفسه، يؤمنون بمستقبل «إسرائيل»، هل يا ترى يستطيعون إقناع شعبهم الذي «أُنشئت إسرائيل على أساس أن تكون وطناً لهم»، بالتخلي عن الجدار العازل؟.. يقول دوبريه: «تبدو فلسطين اليوم حالة فريدة، فأراضيها تتقلص بقدر ما تزيد المسافات، ويغدو الانتقال من نقطة إلى أخرى الآن يستغرق خمس ساعات حيث كان يستغرق ساعة واحدة من قبلُ، لقد غدت حركة الفلسطينيين غير ممكنة بعد تجزئة أراضيهم، إنّنا أمام وضعية خانقة».
يشير دوبريه إلى أنّ الوضع في غزة بات متفجراً، ويرى أنه بعد جيل من القادة العرب وجب عليهم أن يتغيروا، ويخشى دوبريه من أن تؤدي عملية التغيير تلك إلى استبدال من وضعهم الغرب بآخرين أقل قابلية للصلح مع «إسرائيل» في سياق ما سماه النهوض الإسلامي في المنطقة.. والحل؟ يجيب دوبريه بأنه ينتظر «ديغول إسرائيلي».
يبدو أن دوبريه لا يعالج المعضلة من جوهرها، هو أيضاً هنا يسلّم بأنّ الاحتلال قدر، ديغول آمن بالاستفتاء في المستعمرات، لكن ما حكاية ديغول إسرائيلي؟ هل سيمنح الفلسطينيين حق الاستفتاء على أراضيهم فقط، تلك التي حشرهم فيها بعنف الاحتلال؟ إسرائيل تبدو كارثية في نظر دوبريه فقط لأنها تسمح لأحزاب دينية صغيرة بممارسة ابتزازها ضد الحكومة. من جهته يتباكى هالتر على الفرصة الذهبية السابقة حين تقاسم حزب العمل بزعامة شمعون بيريز السلطة مع الليكود بزعامة إسحاق رابين في ثمانينيات القرن الماضي، كما ضيعت الحكومة الإسرائيلية فرصة التفاوض مع عرفات ومحمود عباس، اليوم الأمر بات أكثر حساسية، ويقول هالتر: إنه كان ضد فكرة الجدار العازل، نظراً لأنه وُلد خلف جدار الغيتوهات، لكنه اعتبر أن للجدار انعكاسات إيجابية، فهو من جهة الفلسطينيين جعلهم يتطلعون إلى وضع ما قبل الجدار ولم يعودوا يطالبون بتل أبيب ويافا وحيفا، كما من جهة الإسرائيليين، أدركوا أن ما بعد الجدار ليس ملكاً لهم، ويضيف هالتر بأنه واثق بقدرة العرب على قبول وجود «إسرائيل».
يقول معلقاً على سؤال بونيفاس: «لدي قناعة بأن من داخل هؤلاء الشباب الإسرائيلي الذين التقيناهم أنا ورجيس دوبريه، سيظهر يوماً ما زعيم يتمتع بكاريزما تمكنه من فرض التغيير».
المُعطى الغريب الذي يذكره هالتر وهو يُعقب على دوبريه، يتعلق بموقف كيسنجر الذي، يقول هالتر: «على الرغم من أنه يهودي، هو من قام بمنع منح قطع الغيار للجيش الإسرائيلي في حرب سيناء، والذي أدى إلى تدهور الإسرائيليين، وهذا يؤكد أن أمريكا بإمكانها تشجيع التنمية وأن تقيد إلى حد ما إسرائيل».
يرد عليه دوبريه بأنه من الصعوبة بمكان أن نكون متفائلين، تبدو مشكلة دوبريه في دخول الدين طرفاً في النزاع، أي ما لا يساعد على التفاوض، فقد أظهر ذهولاً كما يقول من النفوذ المتزايد لحماس في المجتمع الفلسطيني، يخشى دوبريه من أن صعود الحركات الدينية، من شأنه أن يجعل الحرب لا نهائية عبر الزمان والمكان، ففي نظره أن فشل الغرب في فرض العدالة في المنطقة عزز اليأس، الإسرائيليون في نظره أيضاً لهم حساسية من التغيير، هم متورطون في تكرار التاريخ، ثمة ما يسميه دوبريه بعمى المحرقة باعتبارها التجربة التأسيسية للإسرائيليين، هذا العمى السياسي يتسبب في ذُهان الذاكرة، يرى دوبريه، وهو مخطئ لا محالة، بأن سوء الفهم الكبير نابع من صدام بين ذاكرة تعاني من التضخم وغياب للذاكرة عند العرب، من هنا حوار طرشان، ففي هذا النقاش الثنائي يحضر اثنان ليس بينهما فلسطيني، هذا في عُرف التنظير والحوار يعدّ خيانة.
يضع هالتر أفقاً تبريرياً آخر وهو يتحدث عن إشكالية علاقة الهوية اليهودية بوضع الضحية، التمييز بين إسرائيل والمحرقة، يتحدث هالتر عن النقاش الذي جرى بينه وبين غسان كنفاني، الذي اعترف كما يزعم هالتر بفظاعة المحرقة، لكنه أكد أن العرب غير مسؤولين عنها، ومن الظلم تعويض ذلك الضرر بمنحهم الأرض العربية.
يجيبه هالتر: «إن كان التعويض هو بالأرض فعلاُ، فإن جميع أراضي شبه الجزيرة العربية وحتى أمريكا وأوروبا لن تكون المقابل لضحايا 6 ملايين»، من هذا التعليل يخلص إلى أنّ الرغبة في إنشاء دولة يهودية تسبق المحرقة، بل إن إسرائيل وُلدت بلا دولة منذ زوال العثمانيين ومجيء البريطانيين، يقول: «وهو الهيكل الذي تولى بن غوريون زمامه عام 1935، وقد تم إنشاء أول صحيفة يومية عبرية، هآرتس، عام 1919، المركز النقابي الرئيسي، الهستدروت، وكذلك الضمان الاجتماعي في عام 1920، الجامعة العبرية في القدس في عام 1924، غير أن لا أحد قام بشرح هذا للفلسطينيين إطلاقاً، ومن الغريب أن عرفات كان مفتوناً بهذه الدّولة قبل الدّولة، كان فخوراً بأن يطلق عليه «العجوز»، باعتباره اللقب الذي أطلق على بن غوريون».
ويشجب هالتر الاستعمال الخاطئ للمحرقة كذريعة أخلاقية، ويرى أن إسرائيليين يستمدون حقوقهم من المعركة التي خاضوها في سبيل حيازة دولتهم قبل المحرقة.
ما قيمة أن يتجاذب مثقفان النقاش حول مسألة تتعلق بالاحتلال، بنوع من الاعتقاد الخاطئ، وتبييض الخيانة بالمفاهيم التي توضع في سياق المغالطة التاريخية، اكتساب الشجاعة في النقاش تفضحه الرغبة في إخفاء ما هو أبسط من كل ذلك، فضيلة الاعتراف ومنطق الاعتراف، أنه هنا تم تثبيت أمر واقع بأدوات لعبة الأمم، ظُفرٌ إمبريالي في الشرق الأوسط، يُحدثنا عن أخبار عن فكرة كيان خاص، لكنه لم يخبرنا عن خيارات هرتزل الجغرافية الأولى.
في موضوع فلسطين تحديداً وجب الحذر، الحذر حتى من أولئك الذين جربوا أن يكونوا في يوم من الأيام مناهضين للاستعمار.