الزلزال وشعرية المكان

تشرين- إدريس هاني:
أثارت لديّ الهزة الارتدادية، ليلة أمس، مجموعة من التساؤلات تخصّ عِلمَ العِلمِ، بقدر ما تخصّ أيضاً السؤال الأنطولوجي لكائن ما زال يعيش حالة اغتراب قُصوى؛ حالة دازاين مثقل بقلق الوجود على كوكب قابل للاهتزاز.
كأنّ الزلازل والمسغبات والأوبئة الفتاكة تذكّر كائناً، كبيراً بعقله صغيراً بجسده، بأنّ مشروعه التاريخي مرتهن للجغرافيا، نقبل باهتزاز التاريخ، ولكننا لا نقبل باهتزاز الجغرافيا، لأنها شرط قيام المعنى على الأرض.
في موضوع الزلازل، ليس هناك مشكلة أرض، بل مشكلة كائن يدبّ ويسكن الأرض، تنشط الزلازل في أعالي البحار والمحيطات ومناطق غير مأهولة بالسكان، وهي المساحات الأوسع على هذه الأرض، لكننا لا نشعر بها إلاّ حين تحلّ ضيفاً على المناطق المأهولة، هذه أنشطة تعزز فكرة كوكب حيّ، له دورات خاصة يكون فيها أكثر حيوية أو توتّراً، يريد الإنسان كوكباً ساكناً، وكأنّ عالم الجماد ساكن لا تعتمل فيه الحركة، إذاً هي مشكلة جغرافيا بشرية.
كُنت متأكداً من أنّ الكثير ممن كانوا بالأمس يعالجون موضوعات “تدويخية” حول أسئلة العلم، والوعي، والتنوير، (وهلمّ جرا)، كانوا يتقاسمون أوهاماً فوق جغرافيا متحرّكة، فكانوا أكثر هلعاً من معظم الناس الذين عبروا بتلقائية عن خطورة الوضع، يمكن للزلزال أن يقوّض فكرة كانط عن النومين، لا يتيح لك الزلزال زمناً موضوعياً كافياً للاختيار والقرار فالوعي, يُصبح الشيء في ذاته يساوي الظاهرة.
أن تمشي على الأرض هوناً، يعني أن تدرك أنّك تمشي فوق أرض متحرّكة، تستطيع أن تبتلعك في أي وقت شاء لها قدرها الجغرافي.
انتابتني هواجس كثيرة خلال تلك الهزّة الارتدادية التي سقط على إثرها ضحايا كُثر، ولا سيما في مناطق أحواز مراكش، وحيث تضاف الهشاشة كسبب من أسباب انهيار بعض البنايات، ويهمني ما هو مفارق في الحدث:
أوّل خبر عن سقوط جانب من منارة الكتبية، المعلمة الموحدية التي تحيلنا إلى لاخيرالدا، التي قاسها المهندس الموحدي على الكتبية، كما مسّ الزلزال جانباً من مسجد تينمل بجبال الأطلس الكبير، المعلمة التاريخية التي تحيل على منطلق مؤسس الدولة الموحدية ومرجعها الكبير المهدي بن تومرت.
قبل شهور، وعلى إثر الزلزال الذي شهدته تركيا، ألغيت رحلتنا الجوية، فأقمنا في إسطنبول، أجواء الزلزال خيمت على المنطقة، والضحايا كثر، بعض المغاربة قضوا في تلك الزلازل، هذا يعني إن كان قدرك القضاء تحت وطأة الزلزال، فقد يصيبك وأنت في بلد آخر.
في تلك الليلة التي خيم فيها الرعب على المغاربة خشية تكرار الارتدادات، بدأ الناس يخرجون هرولة إلى الخارج، كم هو ضعيف هذا الكائن حين يطغى لما يأنس بالاستقرار ثم سرعان ما يكشف عن ضعفه في النوائب، حالة إنسانية عامّة في كل زمان ومكان، خرج الجميع، هذا بينما تأخرتُ في معرفة أنّ الأمر يتعلق بهزة أرضية، كنت مستلقياً على (الكنبة)، بدأ الباب يتحرك، قلت هذا ممكن، لم أهتم، لأنّ (الكنبة) بدأت تتحرك كالمهد، شيء من دوران الرأس، استأنست بالكنبة تتحرك بي، كأنّه مهد يتهدهد بطفل صغير، هذا يفتح باباً لدراسة الأطفال والزلازل، لم أسأل عن السبب، تحرك الباب يميناً وشمالاً، أخيراً عرفنا أنه الزلزال.
خرجت الساكنة، وفكرت بعد أن غيرت ملابس البيت بملابس من قد يذهب ولا يعود، لكن أين يا ترى سأذهب؟ لا بد من مغادرة البيوت والمباني في كل مكان، يعني قدرك التيه في برية المدينة ليلاً، صعدت إلى السطح، وفي ذهني مخطط طفولي، أنه لو حصل لا سمح الله وانهار المبنى، أكون “فوق” وليس “تحت”، وأناور قدر الإمكان، مشهد يثير فضول “المُخاطِر:cascadeur”، لكن همّي هو أن بقائي في البيت قد يثير انتباه الناس، وربما سيتهمونك بالجنون. نزلت حتى أنجو من تهمة الجنون.
مشيت قليلاً متأملاً المشهد، انتابتني فكرة: لماذا لا أعود وأنام، وماذا ينتظر هؤلاء؟ وهل الزلزال سيعلمهم متى وأين؟، في تلك اللحظة، كان همّي النّوم، وبالفعل، شعرت بشرف التّفرّد، الوحيد الذي ينام مطمئناً داخل البيت، حيث الليل يطبق على المدينة، والغريب حين أزعجتني أصوات الجموع وقد أخذ مني النوم مأخذاً، قلت: ما هذا الإزعاج، اللهم لا تبقِ عليها دياراً.
أرسل إلي صديق قديم وسألني سؤال من أدرك بعض الأقاصيص التي كنا نقرؤها صغاراً:
– ؟Encore vivant
– Mille croquettes mal cuites mon ami
قبل أن أخلد إلى النوم، فكرت في تحدٍ آخر، أن أنام قرب (البلكون)، وما إن تبدأ الحركة المتوقعة، أقفز من أعلى، أنا في الأصل مُخاطر، والقفز من الأعلى ديدني، لكن تجربة الزلزال لم أعرفها من قبلُ. توّاً خرجت من وعكة صحية جعلتني أنظر إلى نفسي بمثابة العائد من هناك. وفي عزّ الغيبوبة كنت أنتشي بخيال طفولي مطمئن إلى قدره، وحين أستيقظ من غيبوبتي، أمازح من حولي. الموت حيثما كنت يدركك فوق الأنقاض وتحتها.

النكبات والمآسي مؤلمة بلا شكّ، ولكننا نحن نعيشها يومياً في مدارك هذا الزلزال المعرفي الأعظم، كم مرة نموت تحت أنقاض الهمّ والغم في أقاليمنا التي وصفها ابن خلدون بأنّها معتدلة المزاج، لكن يبدو أنّها فقدت صفتها وتعكّر مزاجها الجمعي. أفكار كثيرة انتابتني تلك الليلة، لكنني فضلت أن أنام، بقلب مجذوب مطمئنّ إلى قدره.
صبيحة اليوم الأول بعد ليلة ملؤها الهلع، استقرت أحوال الناس. كنت أفكّر في جنوني، لماذا كان البيت يستميلني رغم الهلع؟ إنّه انجذاب طفولي للمكان، الخلود إلى حيث يجب أن ينطلق الخيال، تأمّل المشهد بعيداً عن رقابة المقولة، التفكير بعيداً عن مقصّ الرقيب، خيال من دون ثبت بالمصطلحات المفتاحية، الحيز الثابت رغم اهتزاز الجغرافيا. إنّ انهيار مبنى، ولا سيما المبنى العريق، يحدث في مخيال الطفولة أزمة. أعود مراراً إلى بيت الطفولة، وحين أراه خرباً، ينتابني شعور مزدوج: الأوّل، شعور بالفقد ورغبة في العودة إلى المخيال الأوّل، الثاني: شعور بالغبطة، أن لا أحد سكنه وغير خوارزميات مخيال طفل مولع بالتَّملُّك، كنت أقرأ المشهد بعين الطفولة، وماذا يعني الوفاء للمكان، تلك القرى التي رأيناها تنهار فوق أطفال وهم هائمون في أحلامهم، ينتجون صوراً بمخيال طريٍّ بعيداً عن وول ديزني، وفوق أسرة معزولة، لعلها تعيش جمالية الطبيعة بقسوتها وتهميشها، ولكنهم أفضل منّا فطرة ووفاء للمكان، وفاء للجبل، للأطلس الذي حماها واحتضنها.
لا أنسى ما هو جميل في النكبة، إنّه التضامن الإنساني الرائع الذي عبرت عنه الأمم، عن التضامن العربي والإسلامي من كل الفئات، منذ الهزة، ورسائل التضامن الأخوي تصل من كل البلدان الشّقيقة، انهار عارض السياسة وغلبت الإنسانية، انهار الظاهر وكشف الباطن عن خيرية الانتماء، التحية لكل من تضامن وعبر عن أنّنا أمّة واحدة مهما أنستها تلك الحقيقة عوارض الأحوال، فازدادت بذلك فُتوناً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار