ملف «تشرين».. إفريقيا قارّة تستفيق.. ونهضة بجذوة العناد لاستدراك ثروات منهوبة.. إفريقيا تخوض حربها الخاصة ضد الغرب.. إصرار على عدم إضاعة الفرصة هذه المرة

تشرين – مها سلطان:
لن تكون هناك حرب كبرى في إفريقيا، هذا ما توحي به المقدمات التي توحي أيضاً بأن الحكم الجديد في النيجر سيتجه نحو مزيد من الاستقرار، مُمهداً لانقلاب جديد آخر ستشهده المنطقة، وقد لا يكون ببعيد.. أما مسألة العقوبات التي يهدد بها الغرب فلا يبدو أنها تشغل كثيراً تفكير الحكام الجدد في النيجر، ولهم في مالي وبوركينا فاسو خير مثال.
لن تكون هناك حرب كبرى في إفريقيا، ما بعد الانقلاب في النيجر لن يعود الزمن بإفريقيا إلى الوراء، هزيمة الغرب ممثلاً بفرنسا تكاد تكتمل، النيجر كانت أهم المستعمرات الفرنسية وأكثرها ولاء لذلك جاء الانقلاب مدوياً، لم تفزع منه فرنسا فقط بل الولايات المتحدة الأميركية التي لها في البلاد قاعدتان عسكريتان وحوالي 1500 من الجنود.
لم يكن الفزع الغربي محصوراً فقط في سؤال حول «من يملأ الفراغ؟» حيث الجواب يتجه مباشرة إلى روسيا والصين، بل الفزع الغربي يتركز في مسألة أنه لم يعد بإمكانه أن يقرأ إفريقيا وأحداثها من خلال الزاوية القديمة نفسها، أي اعتبار ما يجري فيها – خصوصاً في العقد الأخير- هو صراع بين الغرب من جهة وكل من روسيا والصين من جهة ثانية.. المسألة باتت تتركز في سؤال رئيسي: «في عالم يتغير.. لماذا لا تتغير إفريقيا؟».
في الغرب قرؤوا انقلاب النيجر جيداً باعتباره «لحظة تحول حقيقي للأفارقة، حيث بدا الجميع – على الفور – أقل أهمية من الأفارقة أنفسهم» كما جاء في مقال لمجلة «فورين بوليسي» الأميركية، هذه المجلة كانت من بين وسائل إعلام قليلة «أميركية وأوروبية» ركزت على مسألة أن إفريقيا تستيقظ وها هي تغير كامل النهج، فيما الباقي، وهو الأغلبية، اختبأ وراء إصبعه، مثيراً زوبعة من التشويش والتخويف حول دور روسيا من جهة، وحول المجموعات الإرهابية التي ستصبح أكثر قوة بعد الانقلاب في النيجر من جهة ثانية، لأن هذا الانقلاب سيؤثر في جهود مكافحة الإرهاب التي «تقودها» فرنسا والولايات المتحدة في المنطقة، وهذه أكاذيب لم تعد تنطلي على أحد، لا في إفريقيا ولا غيرها.

الفزع الغربي تجاه إفريقيا لم يعد محصوراً بـ: من يملأ الفراغ؟

بل بأنها تجاوزت كل القراءات الغربية لما يجري فيها من تحولات.. المسألة باتت كالتالي:

«في عالم يتغير.. لماذا لا تتغير إفريقيا؟»

ما زالت ذاكرة الأفارقة تحتفظ بذلك الوصف الذي أطلقته مجلة «إيكونوميست» البريطانية الشهيرة في عام 2000 على قارتهم: «القارة اليائسة»، منذ ذلك العام وحتى اليوم شهدت إفريقيا أحد عشر انقلاباً غيّرت موازين القارة واتجاهاتها الدولية، وإذا ما استمر دومينو الانقلابات على الوتيرة نفسها، فإن العالم سيكون على المدى المنظور أمام إفريقيا جديدة تصنع مستقبلها بيدها، وهذا ما يخيف الغرب يضاف إليه الدوران الروسي والصيني اللذان يصبان في تحقيق هذا الهدف، ولا مجال لمقارعة هذين الدورين ما داما مطلباً إفريقياً.

إنها صحوة تطلق نهضة إفريقية، فالأفارقة اليوم يريدون شق طريقهم بأنفهسم، في السياسة والاقتصاد والعسكرة والأمن، يريدون أن تكون لهم قوانينهم وأنظمتهم الوطنية الحرة، يريدون حل مشكلاتهم وأزماتهم بأنفسهم، يريدون أن يمسكوا بزمام الأمور فتكون حكوماتهم هي الحاكم وهي الحارس لخيرات أراضيهم ومستقبلهم، ويريدون المساعدة ولكن ليس ممن نهب وسرق ودمّر وقتل، بل ممن مدّ يده لهم أولاً بالصداقة، ثم بالتعاون على قاعدة المصالح المشتركة.. هذا ليس استبدالاً لمستعمر قديم بآخر، لا يمكن وضع روسيا والصين مع فرنسا وأميركا في الكفة نفسها، وبالتالي فإن من يقرأ ما يجري في إفريقيا من هذا المنظور، يكون قصير النظر، ولا يدرك التحولات العميقة التي حدثت خلال العقدين الماضيين.. وحتى لو افترضنا أن روسيا والصين لديهما أطماع في إفريقيا، فهذا ليس بأمر خاف على أحد، روسيا والصين تعلنان ذلك، مع الفارق في التعبير، الغرب يسميها أطماعاً فيما تسميها روسيا والصين مصالح، جميع الدول- القوى الصاعدة – تبني قوتها على قاعدة المصالح المشتركة، فقط الغرب «أوروبا وأميركا» ما زال يبني جبروته، وليس قوته، على قاعدة الاستعمار والنهب والسلب والقتل والتدمير.. ولأن إفريقيا وقعت تحت سطوة الغرب عقوداً طويلة فهي ببساطة لن تضيع فرصة من يمد لها يده بالصداقة والسلام، بالاستقرار والتنمية.

إذا استمر دومينو الانقلابات فإن العالم سيكون على المدى المنظور أمام إفريقيا جديدة تصنع مستقبلها بيدها تسندها روسيا ولا مجال أمام الغرب لمقارعة روسيا ما دامت مطلباً إفريقياً

صحوة إفريقيا، إذا جازت تسميتها كذلك، مرت بمحطتين بارزتين خلال العقدين الماضيين: الأولى في عام 2010 عندما انضمت دولة جنوب إفريقيا إلى تحالف «بريكس» الاقتصادي العالمي، ما فتح بصورة أوسع عيون إفريقيا على شركاء دوليين موثوقين يمكن الاعتماد عليهم في الانعتاق من سطوة الغرب وهيمنته على الخيرات والمقدرات.
والمحطة الثانية كانت في عام 2017 عندما طلبت حكومة جمهورية إفريقيا الوسطى من روسيا المساعدة عسكرياً لمنع سقوطها أمام المجموعات المسلحة الممولة من الخارج، وكانت القوات الفرنسية رفضت المساعدة بمواجهة هذه المجموعات وجلست متفرجة.
عندما تدخلت روسيا في إفريقيا الوسطى ابتداء من كانون الأول 2017 كانت حكومة بانغي في وضع سياسي وأمني متدهور بصورة متسارعة، بينما كان المجموعات المسلحة تسيطر على 80% من البلاد وتتسبب بأزمة إنسانية واسعة النطاق.. «إيكواس» بدورها وقفت متفرجة، فيما كان 11 ألفاً من «الخوذ الزرقاء» عاجزين عن حماية السكان.
أمام هذا الوضع، فاجأت حكومة إفريقيا الوسطى الجميع بطلب المساعدة من روسيا، وتوقيع اتفاقية عسكرية معها لتحجز موسكو بذلك موقعاً جديداً بارزاً لها في القارة الإفريقية، ولتبدأ دول أخرى فيها تفكر بالطريقة نفسها.. لمَ لا؟ الغرب لم يكن يتوقع هذا التحول، وبدل أن يواجه الصين في إفريقيا بات يواجه روسيا أيضاً.
الكثير من المراقبين يربطون الانقلابات الثلاثة التي حدثت منذ بداية هذا العام في كل من مالي وبوركينا فاسو وأخيراً في النيجر.. يربطونها بهذا التحول، وإذا ما كانت النيجر توصف بالأهم والأكثر ولاء للغرب، فهذا يعني أن الانقلاب فيها هو المحطة المفصلية الثالثة في «الصحوة» الإفريقية، والأخطر بالنسبة للغرب، ولعل هرولة فيكتوريا نولاند نائبة وزير الخارجية الأميركي إلى نيامي للضغط على الحكام الجدد في النيجر وتهديدهم بأوخم العواقب إذا لم يرضخوا ويتراجعوا ويعيدوا الرئيس المخلوع محمد بازوم.. وهو أمر لم تفعله الولايات المتحدة لا في مالي ولا في بوركينا فاسو.. لعل هذا ما يؤكد بصورة أعمق المخاوف الأميركية من أن الانقلاب في النيجر لن يُخرج فرنسا فقط من المنطقة، بل سيخرجها أيضاً، وسيغلق قواعدها العسكرية، لمصلحة روسيا عسكرياً، والصين اقتصادياً.
الأسوأ بالنسبة لأميركا أن التهديد بـ«غزو تأديبي» للنيجر، وبيد الجيران، لم يجدِ.. الجيران في أغلبهم لم يؤيدوا التدخل عسكرياً، وحتى من أعلن تأييده، كما هي حال نيجيريا، فإنه يعلم أن موقفه لا يُقدم ولا يُؤخر ما دامت الأغلبية ترفض التدخل عسكرياً. أميركا نفسها تدرك جيداً أن التدخل العسكري قد لا يكون في مصلحتها في ظل موجة الكراهية المتسعة في المنطقة لكل ما هو فرنسي-غربي، وعليه قد يصب التدخل العسكري كلياً في مصلحة روسيا والصين.

الأفارقة اليوم يريدون شق طريقهم بأنفسهم.. يريدون أنظمة وطنية حرة.. يريدون أن يمسكوا بزمام الأمور فتكون حكوماتهم هي الحاكم وهي الحارس لثرواتهم ومستقبل أوطانهم

من السذاجة جداً وضع الانقلاب في النيجر، وقبله في مالي وبوركينا فاسو، في سياق الفشل الفرنسي أو الأميركي في المنطقة «ونقصد هنا منطقة الساحل الممتدة من موريتانيا إلى البحر الأحمر».. كما من السذاجة جداً عدم رؤية كم تغيرت إفريقيا خلال العقدين الماضيين، لنأخذ مثلاً:
1- لم يسبق في القارة الإفريقية أن وجدنا دولتين تقفان في خندق واحد لدعم دولة ثالثة عسكرياً بمواجهة الغرب، كما هي حال مالي وبوركينا فاسو مع النيجر.. كلتاهما أعلنتا أن أي تدخل في النيجر هو بمنزلة «إعلان حرب ضدهما» .

2- دول منطقة الساحل تتأثر ببعضها بعضاً، وأي تغيير سياسي سيمتد إلى بقية الدول. الانقلاب في النيجر قد يمتد مستقبلاً إلى تشاد وساحل العاج، وستكون له تبعات على دول غرب ووسط إفريقيا بالنظر إلى عوامل سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية عدة، وهو ما سينعكس حتماً وبصورة مباشرة على موازين القوى في غرب إفريقيا التي تشهد بدورها صراعات محتدمة.
3- في العقدين الماضيين شهدت القارة الإفريقية 11 انقلاباً، القيادة فيها كانت لضباط دربتهم الولايات المتحدة الأميركية، وذلك على ذمة الإعلام الأميركي، بمن فيهم قادة الانقلاب الأخير في النيجر ومنهم موسى سالو برمو قائد قوات العمليات الخاصة، حتى إن الأميركيين كان يرون فيه «رجلهم» في النيجر.. قد لا نحتاج إلى شرح هذه الجزئية فهي تشرح نفسها بنفسها، يمكن فقط أن نعيد التأكيد على موجة الكراهية، التي تتسع وتتصاعد ضد كل ما هو غربي، حتى لدى أولئك الموصوفين بأنها تربو على الولاء والطاعة للغرب. الشعوب الإفريقية، خصوصاً في غرب القارة باتت معبأة نفسياً بصورة غير مسبوقة ضد الغرب الذي جعلهم من أفقر الأمم في العالم فيما هم الأغنى بثرواتهم.. يرفض الغرب أن يرى كل ذلك، مقتصراً في رؤيته على نظرة محدودة قاصرة تتعلق بأن كل ما يجري في إفريقيا سببه الدخول الروسي- الصيني على الخط الغربي في إطار صراع الأقطاب الذي يشهده العالم اليوم.

إفريقيا إذ تطلب المساعدة من روسيا لا تستبدل مستعمراً بآخر.. لا يمكن وضع روسيا والغرب

في كفة واحدة ومن يفعل يكون قصير نظر ولا يدرك عمق التحولات التي بدأت تتسع وتتصاعد

4- لا يمكن عدم رؤية ذلك الفارق في الأجيال بين إفريقيا اليوم، وإفريقيا ما قبل عقدين. الجيل الجديد من الأفارقة، خصوصاً القادة الذين ينفذون الانقلابات، لم يعيشوا في ظل استعمار أو احتلال أو انتداب مباشر كما أسلافهم، بل وجدوا أنفسهم مُجبرين، رغم الاستقلال، على الرضوخ لقوى غربية تدربهم وتدرب جيوشهم، يأتمرون بأمرها وليس بأمر الحكومات الوطنية، الرؤساء أيضاً في الحال نفسها.. إذاً أين هو الاستقلال؟ وكيف يمكن لإفريقيا أن تحقق التنمية والنهضة المنشودة؟
5- في القمة الروسية- الإفريقية التي عقدت في بطرسبورغ في 28 تموز الماضي، كان لافتاً ذلك الانسجام والالتفاف الإفريقي حول روسيا. تسع وأربعون دولة من أصل 54 دولة إفريقية حضرت القمة. الرئيس فلاديمير بوتين وعد بدعم عسكري وتعاون استخباراتي، وبتقديم الحبوب مجاناً لإفريقيا، ليؤكد أمام الزعماء الأفارقة أن بلاده لديها خطة عمل مع إفريقيا حتى عام 2026 تتضمن زيادة التبادل التجاري والانفتاح التكنولوجي والثقافي والرياضي، وبدء التعامل بالعملات المحلية.
6- إفريقيا اليوم وأكثر من أي وقت تنظر إلى نفسها بتقدير وبإدراك كامل لإمكانياتها ومقدراتها، وأن الغرب هو من يحتاجها وليس هي من يحتاجه، فإذا ما تكاتفت وطردته فهو من سيعود إليها جاثياً راجياً. المسألة فقط تحتاج إلى إرادة وقرار، وإلى شركاء دوليين موثوقين كما روسيا والصين.

إفريقيا اليوم أكثر من أي وقت تنظر إلى نفسها بتقدير وبإدراك كامل لإمكاناتها ومقدراتها

وأن الغرب هو من يحتاجها فإذا ما تكاتفت وطردته فهو من سيعود إليها جاثياً راجياً

الأهم من كل ما سبق، أن إفريقيا رغم كل ما تغرق به من حروب وصراعات، ومن سطوة الغرب على مقدراتها، استطاعت أخيراً أن تُسمع صوتها لكل العالم، استطاعت أن تجذب أهم قوتين على الساحة الدولية، روسيا والصين، ومن خلالهما تعمل على حجز مكان لها في عالم جديد يتشكل، وهي التي لديها من الثروات ما يكفي العالم ويزيد، وما يؤهلها لتكون في المقدمة، وصاحبة كلمة وقرار على الساحة الدولية فيما يخصها من جهة ويخص مصالحها مع الدول الأخرى من جهة ثانية.
اليوم تجبر إفريقيا العالم الغربي على إعادة حساباته، إفريقيا اليوم ليست وحدها.. وليتوسع الصراع فيها ومعها وعليها، لا بأس، إذا كان ذلك سيقود في النهاية إلى ولادة إفريقيا جديدة.

اقرأ أيضاً:

ملف «تشرين».. القارة السمراء في رحاب التغيير.. «إفريقيا الروسية».. أهلاً بالعالم الجديد

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار