ملف «تشرين».. إفريقيا تُعيد ترتيب خريطة المصالح الدولية.. تشكيل جديد لعالم متعدد الأقطاب
تشرين – بارعة جمعة:
من أوكرانيا إلى إفريقيا تتسارع الأحداث والاهتزازات والارتدادات في ساحة الصراع العالمي، الذي فرض منتجاته السياسيّة والاقتصادية على الساحات العالمية المختلفة، فشل بعض القوى دفع بها لإشعال جبهات في مواضع أخرى، أصبحت تحت تأثير الفعل وردّ الفعل في ساحات تحمل من الأهمية والعمق الاستراتيجي الاقتصادي ما جعلها محط أطماع الغرب بكل تسمياته، لتغدو الساحة الإفريقية الأكثر اشتعالاً وحدّة من جهة، ومبشرة بولادة قيصريّة للعالم الجديد من جهة ثانية.. ودائماً صاحب الفعل القيصر بوتين.
تحوّلات وتبدّلات
الرئيس فلاديمير بوتين «وبجانبه الصيني» يرى في التحولات السياسية على الساحة السمراء محاكاةً لطموحه وأداةً فعّالة وعميقة الاستراتيجية في التّقدم الواسع والتوغل في عمق المصالح المعادية، قراءة قدمها الخبير العسكري والمحلل السياسي وفيق نصّور، تُثبت تحكم الطرفين، الروسي والصيني، بورقة التحولات والانقلابات الجديدة على القارّة السمراء، لإدراك الطرفين أهميتها في العالم الاقتصادي الجديد.
نصور: روسيا والصين تمسكان بورقة التحولات الإستراتيجية في القارة الإفريقية..
ودول القارة وجدت فيهما الشريك الموثوق لتحقيق عملية الخلاص والانعتاق من الهيمنة الغربية
القرار الاستراتيجي الجريء بنفض غبار التعب الطويل والمُضني بعد السيطرة والهيمنة الأميركية والفرنسية على مقدرات الدول الإفريقية الغنية جداً بثرواتها الباطنية كالذهب واليورانيوم وغيرها لسنوات عدّة، أرخى بنتائجه الكارثية على الأوضاع الاقتصادية للدول الإفريقية برأي الخبير نصور، كما دفع بإرادة الخلاص من هذه الحقبة المأساوية لدى هذه القارة، مستفيدةً إلى حد كبير وواضح من التغيرات الدولية التي أفرزتها وتفرزها ساحات الصراع المركّب والمعقد.
أهميّة كُبرى
القارة الثانية بعد قارة آسيا من حيث المساحة، ومن أهم القارات في العالم التي تمتلك أهمية اقتصادية وجيوسياسية، وفق توصيف الخبير الاقتصادي الدكتور حيّان سلمان للاهتمام الكبير بالقارة الإفريقية، ما جعلها تاريخيّاً هدفاً لكل القوى الاستعمارية «فرنسية، بريطانية، إيطالية» ومع تزايد الأزمات الاقتصادية في الألفية الحالية من غذائية ونفطية ومائية ونقص المواد الأولية وزيادة معدلات التسليح، وتغير المعادلات الاقتصادية العالمية وخريطة القوى الاقتصادية، بدأت الدول الكبرى تتصارع على زيادة نفوذها في هذه القارة، التي تعد سوقاً واسعة للاستهلاك، عدا اعتماد الدول الغربية على الاستفادة من الفارق الكبير بين سعر المواد الأولية وسعرها بعد تصنيعها، أي ما يدعى مقص الأسعار، وهنا يمكننا القول وفق رؤية الدكتور سلمان إن الكثير من الدول الإفريقية تتعرض لمخططات إجرامية تقسيمية من الدول الغربية لتأجيج الحروب الأهلية فيها للسيطرة عليها.
إلا أن الأمور تغيرت لمصلحة القوى الشرقية، لكون أكثر من 50% من معدل النمو الاقتصادي العالمي يتولد من الصين والهند وروسيا، وهذا حسب الأدبيات الاقتصادية الغربية، يكشف أن معالم القوة الاقتصادية تغيرت وسترافقها حتماً تغيرات سياسية واستثمارية، وهو ما بدا واضحاً في رغبة العديد من الدول الإفريقية بتقديم طلب الانضمام إلى مجموعة «بريكس» للخروج من تحت العباءة الغربية ذات التاريخ الاستعماري الكبير.
خطوات تنسيقية
مبادرة ذات وجهين، اقتصادي وسياسي، جعلت من التحليلات والتقييمات المتعلقة بالدول الإفريقية محط جدل لدى الكثيرين، لاسيّما بعد الحدث الكبير من روسيا، الذي وصفه الخبير الاقتصادي الدكتور عابد فضلية بالهدف بعيد المدى، لتشكيل تكتلات دولية لمصلحة القطب الذي بدأت روسيا منذ أكثر من عقد بتشكيله، مدعوماً من الصين والهند بصورة مباشرة أو غير مُعلنة، في إطار مشروع الاستغناء عن الدولار كعملة تبادل دولية وإحلال العملات المحلية وربما عملة «بريكس» التي من المفترض إصدارها محله.
د. فضلية: إفريقيا المنهوبة تاريخياً من القوى الاستعمارية الغربية لا تزال مسحوقة سياسياً
وتنموياً فأي خطوة تنموية فيها تهدد الغرب فيسعى لإحباطها بكل الوسائل
مشروعٌ كبير بدأت روسيا باستقطاب مزيد من الدول الإفريقية إليه، ضمن إغراءات، وفق فضلية، تمثلت بتوريد كميات كبيرة من القمح بلا مقابل، إضافة للاحتفاء الكبير من الرئيس بوتين بضيوفه الأفارقة، الذي عدّه فضلية أكبر من رئاسي وأبعد من كونه رسمياً، فإفريقيا المنهوبة تاريخياً وحتى اليوم من القوى الاستعمارية الغربية لا تزال مسحوقة سياسياً وتنموياً، لأن أي خطوة تنموية فيها تمثل إضعافاً لسيطرة الغرب الاستغلالية.
مساعي روسيا ومن خلفها الصين للتقرب من الدول الإفريقية، دليل قاطع على أن عالمنا اليوم يتجه إلى المزيد من التناحرات برأي الدكتور فضليّة، لأنه سيتجه حتماً نحو تكتلات قطبية عالمية مختلفة عما هو الوضع الحالي، ففرنسا ستخسر الكثير من الموارد والثروات الطبيعية التي كانت تنهبها إلى حين حدوث الانقلاب العسكري بالنيجر، إضافة لوجود تهديدات وصراع عسكري بين فرنسا والانقلابيين «الذين نالوا دعم روسيا التي تعارض التدخل عسكرياً وتدعو إلى حلٍّ سياسي سلمي»، وبالنسبة للغرب فإن ما يحصل هو عبارة عن مكاسب مادية وصراع اقتصادي، أما بالنسبة لروسيا ومحورها فإن المسألة سياسية لخدمة التكتل الشرقي الذي يتم بناؤه حالياً، وكذلك اقتصادية ليس للاستفادة من الثروات الإفريقية فحسب، بل لحرمان الغرب من الاستفادة منها.
أداة ضاغطة
في ظل الطلب المتزايد على تلبية متطلبات الماكينة الصناعية العالمية، تتموضع القارة الإفريقية بالصدارة لتلبية المواد الأولية الداعمة للاقتصاد العالمي، ما جعل منها ساحة استثمار لدول كبيرة منها فرنسا والولايات المتحدة، وفق رؤية الخبير العسكري وفيق نصور، إلا أن أهمية القارة السمراء لا تقتصر على هذا الدور بل تتعداه بصفتها أداة ضاغطة ومؤثرة جداً في ميدان النزال العالمي القائم بين روسيا والصين من جهة والأطلسي من جهة أخرى، ويضيف نصور: ضمن هذا السياق نقرأ الغزل الروسي مع القيادة الإفريقية الجديدة والدعم المفتوح والمهم لقائد التغيير في دولة بوركينا فاسو، ونوعية العتاد العسكري المتطور الذي أرسلته روسيا إلى إفريقيا، ما يؤكد أهمية هذه الساحة في حلبة الصراع العالمية.
د. سلمان: هزائم فرنسا والغرب تتراكم في إفريقيا وأخطرها على المستوى الشعبي
حيث تتوسع الكراهية لكل ما هو غربي.. وكله يصب في مصلحة القوى الشرقية
المشهد الحالي ينُذر بإشعال حرب تراها فرنسا والولايات المتحدة أمراً لا مناص منه، وفق تقديرات الخبير نصور للواقع، في محاولة منها لإعادة الأوضاع إلى نصابها السابق، لكن في القراءة الاستراتيجية العسكرية يعتقد نصور أن الثابت الحاكم بين القوى المتصارعة في حال المواجهة المباشرة أنه لن يكون ثمة منتصر، والنتيجة ستكون الفناء الكامل والشامل، إلا أن القراءة تذهب أيضاً لتسجيل نقطتين لمصلحة بوتين هما: الوجود والتثبيت الروسي على الأرض في إفريقيا لمنع التدخل الفرنسي، ما يشي بنشوب صراع استخباري عنيف على الساحة الإفريقية.
توسيع النفوذ
تؤكد الأحداث أن كلاً من روسيا والصين تسعيان إلى زيادة وجودهما في القارة الإفريقية، التي كانت تمثل مجالاً خصباً للوجود الأطلسي الغربي «الأمريكي والأوروبي» سابقاً، وفق رواية الخبير الاقتصادي الدكتور حيان سلمان، ما سبب قلقاً كبيراً للغرب، لاسيّما بعد أن شاهدوا التمدد الروسي – الصيني في القارة الإفريقية وفي كل المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والاستثمارية وغيرها، وهذا الوجود يزداد يوماً بعد يوم وفق الدكتور سلمان، ما يعني تراجع المصالح الغربية وخاصة الفرنسية والأمريكية والبريطانية.
وركزت الصين على الجوانب الاقتصادية، وتقديم المساعدات المالية والقروض، متوسعةً في السوق الإفريقية على حساب الشركات الأمريكية، ما جعلها الشريك الأول لإفريقيا مؤخراً، بينما ركزت روسيا على الجوانب العسكرية والأمنية مستغلة عجز التدخلات الغربية عن تحقيق الأمن على الساحل الإفريقي ووسط القارة وشمالها، ويترافق كل ذلك، وفق سلمان، مع توجه روسيا والصين إلى بناء نظام عالمي جديد وإنهاء الأحادية القطبية بالتعددية.
د. سلمان: الغرب أمام خسارة حتمية في إفريقيا التي تتغير وسط عالم يتغير
وهي تبتعد عن الغرب بخطوات واسعة تقود إلى تحولات استراتيجية عميقة سياسياً واقتصادياً
ويضيف د. سلمان: المعلومات تؤكد أن الأمور تسير لمصلحة الصين وروسيا، لعدم فرضهما شروطاً سياسية على الدول الإفريقية المتعاونة معهما، عكس الدول الأطلسية التي تتدخل بحجة الديمقراطية والحريات والحقوق، من هنا يتوضح لنا الميل لأغلب دول القارة نحو الشرق والابتعاد عن المركزية الأطلسية، أي إن ما يجري على الأرض الإفريقية يشبه الحرب الباردة بين روسيا والصين والدول الأطلسية وخاصة أمريكا.
خسارة حتميّة
ما ذكرناه آنفاً، وتؤكده الوقائع، هو أن التقدم الروسي – الصيني في إفريقيا يعني خسارة الغرب في هذه القارة الغنية، حسب توصيف الخبير الاقتصادي الدكتور حيان سلمان، بدليل عدم تأييد أغلب الدول الإفريقية الموقف الأمريكي ضد روسيا في الأمم المتحدة وقراراتها في مجلس الأمن، ما يقلل التهديد لها من الغرب، الذي خسر الكثير من المزايا الاقتصادية لمصلحة روسيا والصين، كما وصل التعاون إلى التنسيق العسكري بين روسيا وبعض الدول الإفريقية والتنسيق الاقتصادي مع الصين، وتراجع قوة البروباغندا الإعلامية الغربية ضد روسيا والصين بين الشعوب الإفريقية.
فرنسا مهتمة بالنيجر لمطامعها العسكرية فيها، حسب تأكيد القادة الأفارقة الجدد، الذي يتزامن مع رفض أطياف عديدة من شعوب تلك المنطقة احتفاظ فرنسا بقواعد عسكرية كبيرة في عدد من مستعمراتها السابقة، برأي د. سلمان، لنظرة الأفارقة لها على أنها احتلال، ما ساهم في تراجع المصداقية الفرنسية، والاستدارة شرقاً نحو الصين وروسيا والهند، وقد اعترف وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس بتاريخ 19/4/2023 بتكبد الغرب خسائر جيوسياسية لمصلحة روسيا في منطقة الساحل الإفريقي، مؤكداً أن ألمانيا تعتزم لعب دور مهم في منطقة الساحل رغم انسحاب قواتها من مالي، واعترف بأن الحكومة الألمانية خسرت في دولة مالي مقابل روسيا التي تنجح هناك، وأن المجتمع الغربي يتراجع، واصفاً منطقة الساحل بالمهمة استراتيجياً، وستظل كذلك لهذا السبب بالتحديد، خاصة في ظل الوجود الروسي في المنطقة، مقابل تراكم الخسائر الغربية من فقدان الكثير من الموارد الطبيعية التي كانت تستغلها في إفريقيا.
اقرأ أيضاً:
ملف «تشرين».. إفريقيا تنتفضْ.. هل تدق القارة السمراء المسمار الأخير في نعش الهيمنة الغربية؟