الحروب الصامتة / الأمن المائي العربي .. إلى أين وصلنا؟

تشرين – د. رحيم هادي الشمخي:
منذ أيام تستمر مباحثات عراقية – تركية بخصوص الحصص المائية المُستحقة للعراق من نهري دجلة والفرات وهي الحصص التي تتحكم بها تركيا وفق أهوائها وأطماعها «وصولاً إلى قطعها تقريباً» لممارسة أقصى الضغوط على العراق «وسورية بطبيعة الحال التي تتشارك معهما في نهر الفرات وتعاني المثل من تركيا».
هذه المباحثات ليست جديدة، وهي في كل محطاتها تقريباً لم تحقق شيئاً، إذ لا يزال النظام التركي يستغل ظروف الاضطرابات السياسية والميدانية في العراق وسورية ليضيق الخناق المائي ويبتز به سياسياً ليستحصل مكاسب ميدانية واقتصادية على حساب الدولتين، العراق وسورية، وليوسع ويعمق – تالياً – من أزمة الأمن المائي فيهما، وبما يصب في خدمة المحتل الأميركي، ليُضاف في نهاية الأمر إلى مجمل أزمة الأمن المائي التي تعانيها معظم دول العربي، خصوصاً «وللمفارقة» الدول التي تجري فيها أنهار كبرى/دولية، كنهر النيل في مصر والسودان، وربما كانت أزمة سد النهضة التي وصلت به أثيوبيا إلى مراحله النهائية تقريباً، ضمن أخطر ملفات الأمن المائي العربي، باعتباره شريان حياة مطلقاً لهاتين الدولتين العربيتين.
والأخطر أنه ليس هناك من اتفاقات دولية واضحة، أو ملزمة بخصوص الأنهار الدولية، أي العابرة للدول، وأن معظم الاتفاقات الناظمة لهذه الأنهار هي اتفاقات بينية أو إقليمية، وهي بالتالي تخضع بصورة أساسية لدول المنبع التي ترى أن لها الحق الأول في توزيع الحصص المائية على الدول الأخرى وفق أجنداتها.. وترى أيضاً أن لها الحق في أن تتحكم بهذه الحصص وفق علاقاتها مع الدول المتشاركة، تقدماً أو تراجعاً، حتى ولو كانت تملك الفائض من المياه، وهذا هو تماماً حال العراق وسورية مع تركيا، وحال مصر والسودان مع إثوبيا.. هذا ونحن لم نتحدث عن المؤامرات والمخططات العدوانية التي تحرك دول المنبع بالتواطؤ مع أعداء الدول العربية «إثيوبيا وإسرائيل مثلاً ومن خلفهما الولايات المتحدة الأميركية، والهدف هو إخضاع مصر بالكامل لمشيئة الدول الغربية وأطماعها، وتحديداً لمصلحة العدو الإسرائيلي وتسيّده على المنطقة».
أزمة الأمن المائي تتفاقم عاماً بعد عام، ورغم الإقرار بأنها لا تقل خطورة عن الحروب العسكرية والاقتصادية، إلّا أنه لا يتم التعامل معها بالطريقة نفسها بزعم أنها ليست خطراً آنياً، بمعنى داهماً، رغم أن الأمن المائي يكاد أن يكون هو المحرك الكلي لكل الحروب العسكرية والاقتصادية، وإذا كانت هذه الحروب تسمى بالمباشرة، أو الصارخة، فإنّ الأمن المائي يدخل في إطار الحروب الصامتة، تماماً كما هي حروب الغذاء والدواء، التي ظهّرتها حرب أوكرانيا بأبشع صورها من خلال ما يظهره الغرب الأميركي من استغلال فاقع وابتزاز علني مباشر لروسيا على خلفية هذه الحرب التي تؤكد روسيا أنها ذهبت إليها مضطرة لتحقيق الأمن والحماية لأراضيها ولشعبها.. حروب صامتة تُخاض من وراء الكواليس، ولكن على مرأى من المنظمات الأممية والدولية، ومنظمات حقوق الإنسان المعنية بصورة مباشرة بملفات الأمن المائي والغذائي والدوائي.. ولأنها تُخاض من دون جيوش ولا حروب، ومن دون إطلاق رصاصة واحدة، فإن هذه الحروب الصامتة تبقى مستقرة في الظل، ونادراً ما تخرج إلّا في حال خروج أحد ملفاتها عن السيطرة، كما كان الحال في سد النهضة في فترة من الفترات، قبل أن تخمد من جديد وتعود إلى دائرة الظل.
ولأن أهم الدول العربية تقع تحت سطوة هذه الحروب الصامتة، يمكننا تخيل حجم الاستهداف وأهدافه القريبة والبعيدة.. ولأنه لا يتم فعل الكثير حيال هذه الملف الخطير، يمكننا تخيل حجم نجاح العدو في أهدافه التي لا تقتصر فقط على الدول المعنية بل ستشمل في المرحلة اللاحقة كل الدول العربية من خلال استهدافها في أهم مرتكزات القوة والأمن القومي، وصولاً إلى مستوى الخطر الوجودي.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الأمن المائي لا يتوقف عند حدود ندرة المياه، أو الأزمات التي تنشب بين الدول، ولا عند الموارد المائية التي يتميز بها بلد بعينه، بل أيضاً يشمل الإجراءات الفعالة والوقائية التي اتخذها هذا البلد لتأمين المياه، ومن بينها تكثيف الجهود الدبلوماسية والحوكمة والشفافية، بعيداً عن الأطماع السياسية والاقتصادية للتأقلم مع مشهد التغيرات المناخية، وتجنب النزاعات حول هذه الموارد.

يقول الاقتصاديون: «لا أمن عسكرياً لأمة خارج أمنها الاقتصادي، وذروة الأمن الاقتصادي هو الأمن الغذائي، ولب الأمن الغذائي ومنتجه هو المياه».. هكذا يُحددون متواليات الدولة القوية، والتي تبدأ من المياه، وحسن تدبير استغلالها واستثمارها وحمايتها والحفاظ عليها. وهنا يبرز سؤال، باعتبار أن مسألة الأمن المائي العربي ليست مسألة دولة واحدة بقدر ما هي قضية عربية سبق أن كان هناك وعي مسبق بأبعادها ولهذا تم تأسيس ما يسمى المجلس العربي للمياه.. والسؤال هو ما دور هذا المجلس؟ وربما السؤال الأهم والأكثر مدعاة للسخرية المرّة: كم عدد الأشخاص على امتداد الوطن العربي سمعوا بما يسمى المجلس العربي للمياه؟
في كانون الثاني من عام 2020 اجتمع البرلمان العربي وأصدر «وثيقة الأمن المائي العربي» كوثيقة مرجعية للتعاون والتنسيق بين الدول العربية «في مجال تحقيق الأمن المائي العربي ووضع الأطر القانونية والتنموية للمحافظة على موارد المياه المتاحة في الدول العربية، والحفاظ على حقوقها السيادية في موارد المياه المشتركة مع الدول الأخرى وفقاً لمبادئ المعاهدات والقوانين الدولية والاتفاقيات المبرمة بين الدول، ومواجهة الأطماع الخارجية».
طبعاً هذه الوثيقة كغيرها من وثائق مشابهة لم تُعمّر لأكثر من 24 ساعة، هي مدة تم تداولها إعلامياً، لتعود قضايا الأمن المائي العربي إلى حالة «الأزمات الصامتة» فـ«الأمة» فيها ما يكفيها من أزمات وحروب.. وهذه الوثيقة مثلها مثل المجلس آنف الذكر لن نجد من سمع بها على امتداد الدول العربية، إلّا من كان تداولها إعلامياً، أي ضمن الكوادر الإعلامية، وتحديداً من كان ضمن دائرة بثها أو نشرها، وهؤلاء لا يتجاوزون أصابع اليد.
هذه هي الحال، ولا يبدو أنها ستتغير في السنوات أو العقود المقبلة مادام لدينا من الأزمات والحروب ما يغرقنا لعقود أخرى، وعليه يصبح من قبيل الأحاديث الطوباوية أن نتطرق إلى إستراتيجية قومية للعمل العربي المشترك بخصوص تحقيق الأمن المائي.
وللمفارقة، وبما يُعاكس هذا الواقع فإنّ ملف الأمن المائي العربي من أكثر الملفات حضوراً على مستوى الدراسات، ليس من الدول العربية وخبرائها واقتصادييها فقط، بل من العدو وبصورة أكبر، وغالباً ما يتم نشر نتائج هذه الدراسات على أوسع نطاق بكل ما تتضمنه من حقائق ومخاطر وتحديات وأطماع.
ماذا تقول هذه الدراسات؟
1 – حوالى 50 مليون شخص في المنطقة العربية يفتقرون إلى مياه الشرب الأساسية، وإذا ما أخذنا بالحسبان أن 390 مليون شخص يعيشون في المنطقة، فإنّ ما يقرب من 90 بالمئة من إجمالي عدد السكان يُصنفون في مناطق تعاني من ندرة المياه.
2 – المنطقة العربية هي الأكثر ندرة في المياه بين جميع مناطق العالم، حيث تقع 19 من بين 22 دولة عربية في نطاق شح المياه، وتحصل 21 من 22 دولة عربية على مواردها المائية الأساسية من مياه عابرة للحدود.
3 – أغلب الدول العربية تصنّف في خانة خط الفقر والعجز المائي، إذ إن نصيب الفرد من المياه في تراجع كبير، وهو فعلياً وصل إلى حدِّ الفقر المائي الذي يقدر بـ 1000 متر مكعب «العجز المائي هو سوء التدبير والاستهلاك المفرط وعدم إعطاء الأولية للمشروعات التي تحقق أكبر عائد بأقل كمية مياه مستعملة، وهذا ما يؤدي إلى شح أي إلى عجز في المياه.. أما الفقر المائي فهو مرتبط بعوامل الجغرافيا والمناخ لوقوع الدول العربية في مناطق جافة أو شبه جافة لا تحظى بهطلات مطرية كبيرة، معدل الأمطار بالمجمل يقل عن 300-500 مم سنوياً وهذا ما يجعل للأنهار أهمية كبيرة بتحقيق التوازن المائي».
4 – تقدر الموارد المائية المتجددة سنوياً في العالم العربي بنحو 350 مليار متر مكعب، منها 150 مليار متر مكعب مصدرها تدفقات نهرية من خارج المنطقة العربية «74 مليار متر مكعب من نهر النيل، و30 مليار متر مكعب من نهر الفرات، و40 ملياراً من نهر دجلة»، وهنا المعضلة الحقيقية، حيث يمثل هذا الأمر عامل ضغط هائل على الدول العربية وهو أحد أهم التحديات التي تواجه العالم العربي عند نشوب أزمات أو مشكلات إقليمية.
هذا وغيره كثير جداً مما لا تقوله الدراسات «ولا يُصرح به السياسيون» وبما يجعل أزمة الأمن المائي العربي، وما يُشن من حروب صامتة علينا في إطارها من جهة، ولإبقائها أزمة خانقة تستقر دائماً عند مستوى الخطر الوجودي، وبما لا تقوم معها قائمة لأي دولة عربية.
كاتب وأكاديمي عراقي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار