انحناءات جانيت يلين في الصين.. «أميركا الجديدة المفيدة» ؟!

تشرين – د. رحيم هادي الشمخي:
وكأنها ليست أميركا تلك التي وردت على لسان جانيت يلين وزيرة الخزانة الأميركية، في ختام زيارتها للصين التي استمرت أربعة أيام وانتهت أمس الأحد.
لأول مرة ترضخ أميركا لمسألة أن هذا العالم لم يعد لها وحدها، وأنها- سواء شاءت أم لم تشأ- لا بدّ أن تقبل مقاسمة الصين لها على زعامته.. هذا طبعاً في البداية، ولاحقاً لا بدّ أن تقبل المقاسمة مع شركاء آخرين، باتجاه عالم متعدد الزعامة، أو ما يسمى متعدد الأقطاب، هذا إذا افترضنا أنّ أميركا التي وردت على لسان جانيت يلين، هي «أميركا المستقبلية» وليست «أميركا تكتيكية».. بمعنى؛ إن الولايات المتحدة مضطرة في هذه المرحلة، حيث تتعدد الجبهات الدولية بمواجهتها، أن تركز على الجبهة الأهم والأقوى، والأخطر وجودياً، وهي الصين، وفي حال نجحت إدارة الرئيس جو بايدن في احتواء هذا الخطر، أو التقليل ما أمكن منه، أو وضعه عند حدٍّ معين، فإنّها تستطيع التفرغ للجبهات الأخرى.. ولا بأس أن «تنحني» حالياً وتقبل بالصين شريكاً، ولا بأس أيضاً بالنسبة لها أن يعود عالماً ثنائي القطب، فهذا أفضل من عالمٍ متعدد الأقطاب.
«البعض يتندر ساخراً بقوله: أميركا المستقبلية هي أميركا الجديدة المفيدة، وهي التسمية التي درجت أميركا على إطلاقها على الدول التي استهدفتها بخراب الربيع العربي مدّعية أنها تسعى لتشكيل دول عربية جديدة ومفيدة».
جانيت يلين قالت في مؤتمر صحفي في ختام زيارتها: «نعتقد أن العالم كبير بما يكفي ليزدهر بلدانا معاً» أي أن يلين تريد القول إن العالم كبير بما يكفي ليتسع للولايات المتحدة والصين مادامت « إدارة بايدن لا تنظر إلى العلاقة مع الصين من منظور صراع القوى».. هذه النقطة بالذات تختزل مجمل نتائج الزيارة على قاعدة أن الولايات المتحدة تدعو الصين لتتقاسم معها الزعامة العالمية، علماً أن الولايات المتحدة لم تعد تملك هذه الامتياز.
وترى واشنطن بشكل عام أنها أقرب إلى التفاهم مع الصين منها إلى بقية «الأقطاب المحتملين الآخرين» باعتبار أن ما يحكم العلاقات بين البلدين هي القواعد الاقتصادية وليس العسكرية، ودائماً على الجبهات الاقتصادية يمكن التوصل إلى اتفاقات أو ما يسمى «تفاهمات الحد الأدنى» على الأقل، باعتبار أن المصالح الاقتصادية لا يمكن إلّا أن تقوم على شركاء وعلى مصالح مشتركة، وعلى تنازلات ومناورات، وتفاوض دائماً لحل الأزمات الناشئة، وإلّا فإنّ الجميع متضرر.. وإذا كنا نتحدث عن اقتصادين عملاقين متنافسين ومتزاحمين بشدة – وبعدائية – كالصين والولايات المتحدة، فلنا أن نتخيل كمية وحجم الأزمات بينهما، وكانت المزاحمة الاقتصادية الصينية للولايات المتحدة بلغت مبلغ الخطر الوجودي لدرجة أن أميركا أعلنت حرباً تجارية عالمية ضد الصين وذلك خلال إدارة دونالد ترامب السابقة، وما زالت هذه الحرب مستمرة مع إدارة بايدن الحالية.
لنذكر هنا على سبيل المثال أنه على الرغم من هذه الحرب التجارية والأزمات المتفاقمة بين الجانبين إلّا أن التجارة بينهما تنمو بشكل متواصل ومتصاعد، فخلال العام الماضي 2022 سجلت التجارة نمواً مستمراً للعام الثالث على التوالي وبأكثر من 536 مليار دولار بضائع صينية لأميركا، مقابل 154 مليار دولار بضائع أميركية للصين.
طبعاً لا داعي لنتحدث عن الفارق الهائل في الميزان التجاري لمصلحة الصين، وهذا ما يجعل أميركا تقف على رجل واحدة، ولا تترك وسيلة أو طريقة إلّا وتجربها في سبيل احتواء الصين وقوتها الاقتصادية المتصاعدة، ويبدو أنها خلال هذه المرحلة والمرحلة المقبلة ستبقي التركيز على الصين، ففي الأخبار المتواترة أن مسؤولاً أميركياً جديداً يستعد لزيارة الصين في الأيام القليلة المقبلة، علماً أن زيارة جانيت يلين تأتي ضمن سلسلة زيارات مماثلة كانت آخرها زيارة قام بها وزير الخارجية الأميركية انتوني بلينكن للصين، 18 و 19 حزيران الماضي.
– وقبلها كان هناك لقاء على مستوى مسؤولين في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي لكلا البلدين.
– وقبله كانت هناك محادثات أجراها مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، لمدة يومين في فيينا مع كبير مسؤولي السياسة الخارجية في الصين.
– وقبلها كانت هناك رحلة غلب عليها الطابع السري، قام بها مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية، بيل بيرنز، إلى الصين، في أيار الماضي.
– وقبلها محادثات جرت بين وزير التجارة الصيني وانغ ون تاو والممثلة التجارية الأميركية كاثرين تاي، على هامش منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في ديترويت في أيار الماضي أيضاً.

جانيت وصفت مباحثاتها مع المسؤولين الاقتصاديين الصينيين بأنها كانت مباشرة وموضوعية ومثمرة، في إشارة إلى أنها تطرقت لكل القضايا والأزمات، وما أكثرها، معتبرة أنه لا يمكن فصل أكبر اقتصادين في العالم لأن ذلك «سيكون كارثياً على البلدين ويزعزع استقرار العالم».. ولا يبدو أن هذه النقطة بالذات هي موضع خلاف، وهي معروفة للجميع، حتى إن الأقطاب المزاحمين والمنافسين آنفي الذكر يبدون تفهماً لهذه المسألة ويرون أن هذه المعادلة صحيحة، لكن هذا التفهم لا يُعجب الولايات المتحدة التي ترى نفسها في مقام أدنى بمواجهة الصين، وعليه هي تطالب على الدوام بما تسميه «العدالة» في طريقة معاملة الشركات الأميركية العاملة في الصين، وتقول يلين: نريد اقتصاداً عالمياً ديناميكاً وصحياً ومنفتحاً وحراً ونزيهاً، لا اقتصاداً مجزأ، يجبر الدول على الانحياز إلى طرف ما.
هكذا إذاً.. وكأن هذه ليست أميركا التي نعرفها ويعرفها العالم، ومتى كانت أميركا تريد أو تسعى باتجاه هذا المستوى من الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية؟
يبدو أن أميركا حالياً هي تماماً في مرحلة الانحناء التي التقطها العالم من خلال مشهد جانيت يلين وهي تنحني مرات عدة أمام نائب رئيس الوزراء الصيني هي ليفينغ، من دون أن يُبادلها بالمثل، ما تسبب بموجة غضب داخل أميركا كانت مرآته وسائل الإعلام التي صدمتها واقعة الانحناء، مؤكدة أن «المسؤولين الأميركيين لا ينحنون أبداً.. هذا ليس جزءاً من بروتوكولاتنا الدبلوماسية» معتبرة أن المشهد بدا «كمن تم استدعاؤه إلى مكتب المدير». وختمت:«هذه هي بالضبط البصريات التي يُحبها الصينيون».
كاتب وأكاديمي عراقي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار