ملف «تشرين».. في رحلةِ صعودها المتأني والمدروس .. الصين تأخذ العالم إلى شراكات أكثر أمناً وثباتاً
تشرين – هبا علي أحمد:
مما لا شكّ فيه أن الاتفاق السعوديّ – الإيرانيّ برعاية صينيّة في آذار الماضي يمكن النظر إليه على أنه نقطة التحوّل الرئيسة في الصعود الصيني اللافت والنوعيّ على المستوى السياسي، الدوليّ والإقليميّ، بما تركه من تداعياتٍ تتمظهر يوماً بعد آخر على الدور الأمريكي وتأثيره في مجمل التطوّرات السياسيّة ذات الصلة، وخاصة لناحية توجّه العديد من الأطراف ناحية الصين، رغم أنها كانت تُحسب حتى وقت قريبٍ على المحور الأمريكيّ المؤثّر في سياساتها، ولناحية تأثير الصين، بسياستها المتزنة والمرنة، في العديد من العلاقات الدوليّة والإقليميّة، وسعيها لامتصاص عوامل الاضطراب والفوضى لمصلحة عوامل الاستقرار والتعاون، بما يصبُّ في خدمة الجميع إلّا الأمريكيّ الذي يجد دوره يتراجع أمام العملاق الصيني، وتالياً من الممكن أن نكون أمام مرحلةٍ جديدةٍ من التصعيد بين الطرفين بعناوين مختلفةٍ وغير مباشرة.
من يقرأ الصين جيداً يدرك أنها من الحنكة والذكاء بما يجعلها تبتعد عن عقلية الهيمنة وفوضاها.. ومن الإلمام بالمتطلبات العالمية بما يجعلها تبني قوتها على التعاون والشراكة والمنفعة المتبادلة
لم يكن صعود الصين مفاجئاً، كما يصفه البعض، فالمراقب للسياسة الصينية السياسية والاقتصادية والتشابكات التي تنجزها في مختلف القارات يصل إلى نتيجة أن العصر القادم هو «عصر الصين»، وطبعاً ليس الصين بمفردها، بل الصين مع شركائها و/أو حلفائها على مستوى العالم، وعندما نتحدث عن هذا العصر، فمن غير الممكن التحدث عن عوامل جديدة للهيمنة والسيطرة والتحكّم العالمي، كما يحلو للبعض تفسيره.. من غير الممكن، لأن الصين من الحنكة والذكاء ما يجعلها تبتعد عن عقلية الهيمنة التي ترافقها الفوضى دائماً، ومن الحنكة والإلمام بالمتطلبات العالميّة ما يجعلها تبني قوتها على عوامل التعاون والشراكة والمنفعة المتبادلة، ومَن يقرأ الصين بالشكل الصحيح يدرك تماماً أن هذه العوامل جزءٌ أساس في مشروعاتها الخارجية ومن شروط نجاحها والمثال على ذلك « الحزام والطريق» الذي يحقق أهداف الصين في الوصول إلى مناطق نفوذ اقتصاديّة واستثماريّة، كما يحقق للدول المعنيّة عائدات وفوائد اقتصادية، وعند هذه النقطة نجد أن الاقتصاد هو الأساسُ وطريقُ النجاح في العقليّة الصينيّة.
ويمكن الاستدلال على العقلية الاقتصادية للصين من آخر الخطوات التي تمّت مؤخراً في مؤتمر الأعمال العربيّ- الصينيّ الذي اختتمت أعماله الثلاثاء الماضي بـ«إعلان الرياض» الذي تضمن تسعة بنودٍ رئيسة، تتمحور جميعها حول الاقتصاد، بما فيها توقيع اتفاقيّات استثمار بقيمة 10 مليارات دولار، مع التنويه بأن الصين تعدُّ الشريكَ التجاريّ الأكبر للدول العربية بـ430 مليار دولار، واستناداً إلى ما ورد ذكره نجد أن الصين بتعاونها مع العالم العربي، على نحوٍ خاص، تطوع السياسة في خدمة الاقتصاد الذي هو الأوّل والأهمّ.
ولأن الحديث عن الصين اقتصاديّ بعنوانه العريض، فقد تم طرح الكثير من الأسئلة المشككة في قدرة الصين على التأثير في النفوذ الأمريكي الاقتصادي في ظل هيمنة الدولار وارتباط الكثير من المعاملات المالية والتجارية به، وتالياً يحتاج الأمر الكثير من الوقت.. لكنْ المعطيات تشير إلى عكس الصورة المطروحة في السؤال، مع الاتجاه إلى الحديث عن عملة صينية تنافس الدولار الأمريكي، وقد تكون بديلاً عنه في المستقبل القريب أو البعيد، وحتى لا نغالي كثيراً، فالأصحُّ هو في المستقبل البعيد، لأن الانفكاك من الدولار يحتاج أشواطاً كثيرة من العمل والشراكات والاتفاقيات، لكن هذه العملة، إن أبصرت النور، فهي لاشك إحدى الركائز الأساس في الصعود الصيني الإستراتيجي وصعود القوى العالمية، وبكين مهّدت الطريق برويّة وهدوء عبر منظّمات اقتصاديّة يعد وجودها فيها أحد معالم العالم الجديد كـ«بريكس» و«شنغهاي» لكونها قوةً اقتصادية لا يُستهان بها.. العديد من التحرّكات تسير باتجاه «اليوان»، إذ أعلن وزير النفط الباكستاني مصدق مالك أن بلاده ستدفع ثمن واردات النفط الخام الروسي بالعملة الصينية، وفي المعلومات أيضاً أن المزيد من دول العالم تتجه إلى التخلي تدريجياً عن الدولار مقابل سلة عملات أو استخدام اليوان في التبادلات التجارية، واتخذت دولة الإمارات الخطوة الأولى في هذا المجال، رغم أن السعودية كانت سبّاقة في إبداء انفتاحها على تسعير جزء من نفطها باليوان الصيني بدلاً من «الدولار القوي» وسبق أن حذرت المستشارة الأميركية السابقة لوزير الخزانة مونيكا كرولي، من أنه إذا قررت دول أوبك مثل السعودية بيع النفط بعملاتٍ أخرى، فهذا سيعني انهيار النظام الاقتصادي الأميركيّ وكارثةً كبرى.
في النظام العالمي المقبل سيكون لأميركا دور ضمن أدوار وهذا أمر كارثي
إذ لن يكون بإمكانها التعويل على شراكات أو عقوبات كفزاعة دائمة فالبدائل الأكثر أمناً متاحة للجميع
وكما ذكرنا الصعود الصيني بهذه الصورة ليس حدثاً مفاجئاً بل هو خطوات عملية مدروسة وإستراتيجية قامت بها الصين وأتت الفرصة المناسبة واللحظة المواتية للحضور بقوة كلاعب يصطف إلى جانب لاعبين آخرين، ليس ذلك فحسب فإثبات الصين ذاتها في مواجهة أمريكا في مختلف الميادين السياسية وممكن الإشارة هنا إلى الفيتو الصيني الروسي في وجه المشاريع الأمريكية- الغربية الهدّامة بما يخص سورية، والميادين الاقتصادية كالحرب التجارية مع واشنطن، وغيرها من المجالات الالكترونية والذكاء الاصطناعي باعتبارها مرتكزات القوة في عالم اليوم المتغير بصورة سريعة أعطى دفعاً قوياً للكثير من الدول في الالتفاف على واشنطن والبحث عن شراكات وعلاقات إستراتيجية أكثر أمناً وثباتاً.
الصورة المختصرة السابقة، تعطينا تصوراً عن العالم المقبل الذي يتكرر الحديث عنه بكثرة راهناً لكن التكرار هنا يعد مفيداً لناحية التأكيد ولناحية عرض الوقائع، من حيث أن الدور الأمريكي يتراجع من دون أن ينتهي إلى غير عودة، لنكن واقعيين، ففي العالم المقبل سيكون أحد الأدوار وليس الدور الواحد وهنا الفرق الكبير والكارثي بالنسبة لواشنطن إذا لم يعد بإمكانها التعويل على شراكات وحتى على عقوبات كفزاعة دائمة مادامت البدائل الأكثر أماناً متاحة وما على من يود النهوض والصعود الحقيقي إلّا تفعيلها ووضعها موضع التنفيذ وإن اقتضى ذلك بعض الوقت، فمثلاً إذا أردنا حصر الحديث في سياق اقتصادي وبالأخص عن العملة المهيمنة فقبل «تسيّد» الدولار الأمريكي كان الجنيه الإسترليني، و قبله الدولار الإسباني وهكذا.. أي فيما معناه ربما يكون لكل عصر عملته.
اقرأ أيضاً:
ملف «تشرين».. نبوءة نابليون التي تحققت بعد 200 عام.. «الصين استيقظت وبدأت تهز العالم»..